أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد سليمان القرعان - رواية خطى في الظلام - الجزء الاول















المزيد.....



رواية خطى في الظلام - الجزء الاول


خالد سليمان القرعان

الحوار المتمدن-العدد: 921 - 2004 / 8 / 10 - 09:09
المحور: الادب والفن
    


ما أ صعب أن
تصحو لتجد نفسك أنك كنت مغمض العينين. عن رؤية الحياة..
وقد أصبحت في عالم من الوجود مختلفاً عن الآخرين..

وجوداً ترى فيه عالماً من الدنيا غير الذي كنت تراه، لتعيش حياةً غير التي مضت. منذ أن تفتحت عيونك.. شيئاً ما كان مبهماً، ومجهولاً، وضائعاً، يبحث عنه جميع البشر، كالجنة الموعودة التي وصفت عبر التاريخ لأناس قضوا من أجلها وأنجزوا ما لم ينجز من أجل الفوز بالبعث من جديد في جنة الخلود ونعيمها..

أن ترى حقيقة الظلام وبواطنه .. الحقيقة التي خلق الإنسان من أجلها والاستمرار بها. كالنور الذي لا ينعدم.




خطىً من الماضي البعيد، تطارد هذا الجسد الغائر دائماً لا يكاد يتوقف، سوف تنعدم الحياة، إذا فعل. يشاقق الحياة والعدم معاً، سيّان لديه الاستمرار، فلو ملك هدفاً لأصبح بشراً، الغموض في خطاه أقوى، وطأت الكثير وجاوزته، لتتآكل المسافات في ثناياه طائعة لأجل إرادة خافية، هو نفسه لا يدركها، لكنها تحركه.

وُجد متأخراً في طرقٍ لا متناهية، يحكمها خطرون متخاذلون، يحمل نزعة حادّة ترتسم في عينيه، يتلاشى في حدقاته الخطر، ليتناثر دائماً كقطر الماء في البحر.


الجزء الاول

بأعصاب مشدودة استولت عليه سحابة قاهرة عندما قطع الممر الطويل وصعد للأعلى يحيط به الرجال ذوو الرهبة. تعمد ضرب كبرياء بعضهم بعد أن توقف في مطلع المجلس الذي دعاهم إليه.
عمّ صمت طويل قبل أن يرمق "إيال" بنظرة خاطفة وبعد أن تفقّد بعينيه "باحرار" و "القواري".
انتظمت الأنفاس والأعين تترقّب بلحظاتها العصيبة بينما رجاله ينتشرون حولهم تقدم من مقعده بعد أن أشار لهم بالجلوس واحتل مكانه.
كشف عما في داخله عندما تحرّكت فيه نوازعه بهدوء وقال:
- تجاوزنا معاناة الأجناس، وما يصنعه "أدينان" من صالح وجودنا، وعلى قدر اهتمام الموساد بثورتنا، علينا المواجهة طالما نستطيع ولن يغيّر الانشقاق فينا شيئاً.
احتواه الصمت فجأة فكر طويلا وعيناه تراقب الجميع، تعرّق وجه "إيال" ولم يستطع الهرب بنفسه عندما شعر بأنّه يقصده، كاد أن يتلعثم عندما تجرّأ وقال:
- أدينان صنع …
قاطعه زروان
- أنت صنعت عندما خالفت مبادئ الحركة، لم تبدِ مساعدة في اغتيال "كيلون" الذي لا يزال يتربص بنا، هناك ما هو أقوى من يهو ديتك لارتباطك معنا منذ زمن طويل.
حاول أن يدافع عن نفسه بينما الإشارة كانت تكفي لفض المجلس ودون أن يسمع شيئاً من أحد.
خرج الجميع، وقد عرفوا مغزى "زروان" ومقصده، لم يبق في المجلس سوى مساعده، باغته بنظرة غامضة بعد أن رأى فيه الاستعداد للرحيل وأضاف:
- كفانا، كفى "أدينان" توغّلنا في حرب لسنا منها.
أصابته الحيرة، وتردّد قبل أن يرفع برأسه إليه ويقول:
- ولكن علينا أن نستمر، إذا خرجنا سوف يقضون علينا لقد تورّطنا، الأمن بدأ يتدخّل، والموساد يُحكم قبضته على معظم العصابات في استنبول لقد اغتالوا عبد الناصر في ملهى "البوسفور" مؤخّراً.
- الأمن لن يتدخّل إنّهم يصنعون شيئاً من الرهبة بعد ائتلافهم مع الاستخبارات الإسرائيلية ضدّنا، فهم يدركون إذا ما تدخّلوا أن البلاد ستضطرب ، لديهم مشاكلهم مع الأكراد والمعارضة ولن يصنعوا من استنبول بيروتاً أخرى. أمّا "عبد الناصر" فقد اغتيل لشكّهم حوله بأنّه وراء انفجار سفارة إسرائيل.
- ماذا عنك؟ ماذا عن باحرار؟ ما رأي الثورة ؟
- لا رأي لدينا، الأمن السري يميل إلى مغادرتك وترك البلاد فأنت محاط بالقتل أو الاعتقال بعد أن خرجت منتصراً بالتصفيات وبعد أن أُكتشف أمر السلاح.
- هذا يعني أنني خسرت ما صنعت، أفهم خياراتكم جيداً.
- ليس أمامنا سوى الرّحيل، هل تريد للثورة الموت، سنبعث بـ"إيال" إلى الرباط أنت و "زيريني" تسافران على مراحل برفقة "كوران" حتى اللحاق بكم وتشكيل الجبهة من جديد.
ابتسم "زروان" بعد أن قام من مقعده، وجد فرصة ليقول له :
- الثورة تأتي بالخير أحياناً، إنها تنتظرك، هل تفهمني.




أيدينان : الاسم الحركي لعدنان
كيلون : رئيس قسم الاستخبارات الإسرائيلية في آسيا الوسطى
المدائن : إشارة الى طرابلس الغرب







فندق النجمة، وَقْعٌ آثِم، لِخُطىً ألِفَت المجهول، بينما الصباحُ قد فضَّ استيلاءه الكون، ورشقات من المطر الندي تتناثر قطراتها عبر ثنايا اشرا قات الشمس المنتشرة على أجواء المدينة، ومحيطها.
لم يَسْلم "زيريني" وصاحبه من تراشق المطر المتساقط، بعد أن تركهم التاكسي على بعد أمتار من الفندق الذي ارتسمت في أعلاه نجمة سداسية، تعانق إشراق الصباح استعلاءً وكبرياء.
-أنظر.. أنظر لأفق الشمس، كيف يتصاعد من الشرق، حتماً سوف تغرب به ثانية في مدار هذه النجمة الشامخة، ليتكوّن أفقاً آخرَ ويختفي على وميض البحر.
تسارعت الغيوم الكثيفة، المتناثرة هياجاً في السماء، هاربةً قبل أن يطرح الوجود دفئه، على الملأ والكون، الذي ما يزال ناعساً، أمّا المطر فقد أخذ يتضاءل منقرضاً حياءً من الخطى القادمة.
تفاءل "زيريني" بابتسامته الخابئة، ليحدّث صاحبه بعينين حادتين
-إنها مدينة مدهشة على ما يبدو، تأمّل طبيعة الصباح فيها، والسكون، وكيف يعانق هدوءها، وأقبيتها وأشجارها، وكذلك طيورها التي نسمع زغاريدها.
فأجابه أدينان والأرق يلجم شفتيه عن الحديث:
-ربّما، وربّما السكون قد كوّن هذا لديك، الصباح ملك نفسه عادةً.. هيّا ندخل الفندق، فما أدراك، وربّما لن نجد مكاناً فيه يأوينا بعد هذا العناء، وهذا البرد الذي ألمّ بنا.
تقدّمت الخطى بهم؛ لتتوسّط ساحة تفصلهما عن الفندق بجامعٍ للمصلين. بينما شجرة من الكينا، كانت على مسافة منهما، تعانق الرياح بحفيف أوراقها المسموع.
كان الطابق الأرضي من الفندق يستخدم كمقهى واستراحة، إضافة لصالته المستطيلة، التي تقام فيها الحفلات الخاصة بنزلائه. اختارا أحد الأماكن، وطلبا قهوتهما، وكانا قد جلسا حول مائدة في زاوية بعيدة، قبل أن يسيرا إلى مكتب الاستعلامات المقابل لصالة المقهى، والذي بدا لهما أنه يغص بالفتيات الجميلات من زبائن المكان وقاطناته، وقد أخذن بتناول القهوة، والإفطار الصباحي الخفيف.
-يبدو الأمر مختلفاً هنا..
-أدينان!!
-علينا أن نبدِّل المكان، لن أستطيع مقاومة هذه العيون المليئة شغفاً بنا قبل معرفتنا، سوف تخترقنا الفتيات، وعلينا الابتعاد.
ساد المكان شيئاً من الافتتان والتوتر في آن واحد، فهناك من حالفها الحظ من رغبة عيْني "زيريني"، والتي تركت بحدقتيها أثراً ساحراً، وجاذبية غريبة، لدى الكثير منهن.
"فأدينان" بدوره فهو يُدرك مدى الشاعرية التي يتحلّى بها صديقه، حتى أنها كثيراً ما أثّرت بهما هذه الشخصية، إيجاد المشاكل، والتي لا يمكن لها أن تصل إلى حد التورُّط في كثير من الأحيان، إلاّ أنها كثير ما اكتسبت أيضاً تحقيق النجاح في عمل ما لا يتوقّعه أحدهما.
انساب تفكير "أدينان"، وانغمر متسارعاً، وهو ما يزال يحتسي القهوة التي تناولها من يدي "زهرة"، متأمّلاً "زيريني" القابع أمامه، بوجهه الفاتن رجولة وينوعة الشباب معاً، ليقول له بعد قليل وبصوت خافت:
- لو علِمت إحداهُنّ بأنّك محترفاً الموت والقتل، لما بقيت واحدة منهنّ تعيش في هذه المدينة. فتيات كثيرات تسنّى لهُنّ الهرب من "استنبول"، وخيالك يصاحبهُن في هروبهن، لأنّك موجود بها، بسبب تلك "الرومانية" عشيقتك التي أفرغت رصاصك في ثدييها أمام روّاد الملهى.عندما وجدت أنها تعمل لحساب الموساد 0
أمّا "أدينان"، فقد تجاهل نفسه، وداس على ماضيه، وتناسى عقدته التي لازمته طوال حياته، كان قد تناسى نفسه منذ الصغر، حتى في أثناء دراسته الهوجاء.
كان حينها يذهب إلى الصيد كلّ مساء، بعد أن يتناول بندقية والده دون علمه، ولم يتسنَّ له بعد حمل البندقية الطويلة بين يديه، حتى يعود كل صباح، وقد ترك وراءه أنثى حمار، أو بقر أو غير ذلك، إلاّ وقتلها، ويترك الفقراء من النّاس يصرخون على أقدار مواشيهم، ويبرر ذلك لنفسه، على أنّ الأُنثى من الملأْ والأنام. لا إثم يطوله عليها في حال الخلاص منها.
كان قد تذكّر "أدينان" أثناء جلوسه، تلك السحابة من الذكريات، ففي أحد أيّام الصيد، عند الغروب، عندما رأى بأمّ عينيه الحادّتين، فتاة تمشي على مرتفع من الروابي، وهي ترعى غنماً، وعندما سدّد بفوهة بندقيته نحوها، وقبل أن ترتعد بواطن صدره، ليضغط بأصبعه على الزناد، بينما هو يسدّد على منتصف صدرها، ظهر له فجأة طفلٌ يتشدّق بيديه على ثوبها، مما حدا به ذلك إلى تركها وتجاوزها، ليبقى نادماً أيّاماً طويلةً على ذلك الصيد، ليستمر بعد ذلك في صيد الأفاعي، وهو بحسرة من أمره.
لقد أبدى وجودهما معاً، في ذلك المكان، شخصان مجهولان، بدا عليهما عناء السفر الذي غدا واضحاً للجميع مع بداية الصباح، وكانً حديثهما الساكن، والذي يدور بينهما، قد أبهر صائدات الزبائن، عندما وجدت معظم الفتيات بحذاقة، شابين وسيمين حيث تجاهلن جميعهن ومن خلال النظرات الفاحصة بأنهما غرباء، وهو سلوك كانت تتبعه الفتيات في المدينة من أجل اقتناص السيّاح والغرباء، لا يستطيع أيّ كان اكتشاف هذه المهارة فيهن؛ "زيريني" ذو الوجه الأبيض، الطويل القامة، المليء القوام، كانت تكفي هفوات عينيه أيّة فتاة لاغرائها بسحرها الرفيع لتفتتن به، إلاّ أنّ سلوكيّة الإرهاق المتواصل جعلته يتناسى كل شيء من أمامه ليتحرّك بطريقة لا إرادية وينهض نحو استعلامات الفندق القريب منه.
أمّا "أدينان"، والذي تسمّر في مكانه يتابع بعيونه كل شيء، والتي تجنح بدورها خلف نظّارته المظللة بالسواد، بحيث كانت لا تسعف أحداً على رؤيتها جيداً، فقد استمر يحتسي قهوته ويدخّن بينما وسامته كانت تظهر من خلال ما يرتديه من ملابس متوسطة الثراء، وقوّة متميّزة بهدوئه، وبوجه يحمل في ملامحه ما لا يحمله أحد، من جرأة حادّة ترتسم في جبينه، واسمرار بشرته المجهولة، والتي تتقلّب بتقلّب الطّقس، إضافة إلى ذلك، فقد كانت تُبرز عضلات يديه غلاظة شديدة وفاضحة، تُظهر صلابة متميزة، حدَت به إلى أن يخفيها عن أعين الآخرين، رغم القامة المتوسطة التي كان يتمتّع بها.
أمّا جبينه، فقد كان متوسّماً بخطّين يكادان أن يكونا مختفيين، عندما لا تحدّق عيونه، وإذا فعل، فلا بد لهما أن يُظهرا حيوية كالروابي العتيقة التي كان يصطاد فيها بصغره، لتمتثل كالمنحنيات الهادئة والتي لا تمكن أحداً ما من إدراكها، أما في كينونته، فهي تمثل الشراسة والاصطياد، والكبرياء الذي لا يخضع لشيء، حتى أن قاتله المحترف "زيريني" والمشهور بين الموساد بشراسته، كان يهابه، ويدرك تماماً ماذا كانت تعني له ارتسامات جبينه، حتى قال له في إحدى المرات:
- لا تحدّق بي هكذا يا أدينان، إنّ عينيك تكاد أن تخترق السماء.























كان موعدهما يحن لملاقاة "سليم"، في صالة فندق باب البحر الذي يقع على ساحل المتوسّط شمالي المدينة.
لقاءً حاراً جمع الأصدقاء القدامى، فالسنوات التي انقضت، كانت كفيلة بأن تصنع الكثير من التغيير، فالوجوه اختلفت، وكذلك الطموحات التي استلبها الزمن، الذي قضى على كثير من الأحلام، أحلام الغربة وأوهامها، إلاّ أنّ المجريات والأهوال بأحداثها المتغيّرة أرست فيهم ارتباطاً متيناً أمام رؤى الحياة العسيرة، التي تواجههم.
احتسى جميعهم القهوة، ثم هموا بمغادرة الصالة، حيث هناك ما ينتظرهم احتفاءً بوصولهم، في صالة السنابل التي تتوسّط المدينة، الحفلة التي نظّمها "سليم" بخفاء غير معلن، في المكان الذي تديره "فاطمة"، عاملة الأمن الخارجي، وصديقة التشرّد الماضي لـ"أدينان"، التي استضافته في المدائن قبل توجّهه إلى الرباط، مدينتها الأصيلة.
التفّ الجميع حول المائدة المستديرة، في الطابق الثاني من الصالة على أنغام الموسيقى الهادئة، بعد أن استقبلهم جمعٌ من أصدقاء "سليم".
جلس "أدينان"، ثم جلس "زيريني" على يساره، أما سليم فقد جلس عن يمينه، بحيث تصدّر جميعهم الفرقة الموسيقية التي أصبحت أمامهم.
تقدّم منهم مغنّي الرّاي "محمد الأمين" وحيّاهم على الحضور، ثم عاد إلى الفرقة التي أخذت تعزف الألحان المختلفة، التي تسبق الغناء.
لم تكن بعد قد ظهرت "فاطمة" لـ"أدينان"، حيث كانت مشغولة في إعداد الطعام والمشروبات بنفسها، بالطابق الأرضي من المطعم الذي يعود للصالة، ولم يكن سرورها الغامض، والذي حاولت إخفاءه عن "سليم"، عندما أعلمها بوصول أدينان، إلاّ ليزيد فيها النشوة الفاضحة، والسعادة الغامرة، التي بدأت تفيض على عينيها جنوناً.
تعالت أنغام موسيقى الرقص (رقص الأفاعي)، في كافة أنحاء القاعة الطويلة وتمادت الفتيات الجميلات بالرقص في كلّ مكان، ينتشرن فيه، حيث ملأ الصخب المكان مجوناً وسحراً، وظهرت فاطمة فجأة بين الرّاقصات الرشيقات بخصرها الأهيف، الذي جمع بهياجه إيقاع الموسيقى السّاخن، ورقص الماضي العتيد، ليطلق جسدها بسهامه إلى عيني "أدينان"، الذي عبقها ببسمة حائرة، تفهمها جيداً، أذهل رقص فاطمة من عرفها، بطبعها الحاد، وقد بدت على غير عادتها، ولم يسبق لأحدهم أن رآها تتراقص بهذا التناغم الذي أحياها بعد صمت طويل، بعد أن تلاقت العيون أخيراً ببريقها الظامئ، لترى النور فجأة يطل عليها من غياهب الظلام، عينان تتألّقان، حتى السماء ورموش عاتبة، ضربت سهامها بشغف، إلى صديق الماضي الكاسر الذي أظلّها من أسدال الليل الجائعة، عينين يحتويهما واقعٍ مرير، يتناسق بريقهما وشفتيها المستظلتين بجمال وجهها الذي ازداد جمالاً وشباباً منذ تركها "أدينان" تلك الأيام التي مضت، بعد أن اختار لها طريقاً آخراً بعيداً عنه.
تذكّر "أدينان" الذي قلّما يبتسم. تذكّر "ليبندة" في بازي وتذكّرها لأوّل وهلة عرفها، الفتاة الهائمة ضياعاً وتشرّداً في متاهات الغربة، فتاة ظامئة للحياة، يستغلّها هذا وذاك لأي شيء.
.. تذكّر أحزانها ودموعها، بين جموع أولئك، الذين يسيطرون على الشوارع والصّالات من خلف الظّلام، ليضمّها أخيراً إلى مجموعته من الضحايا التي تقذف بهم شواطئ "مرمرة" ومقاهيها قبل أن يتوغّل بهم الهلاك والموت في مسالخ الظلام.
أحنى "أدينان" برأسه يميناً، ورمق "سليم" بنظرة، استدرك الموقف الذي خرج عن السيطرة بلا وعي، ثم ظهرت فيه علامات الحياء، فأشار سليم بدوره لـ "فاطمة" من بين الفتيات اللاّتي يهمن بالرقص، إشارة أدركتها، فنـزحت دون أن تُشعر أحداً، ثم اقتربت منهم، وعانقت "أدينان" بحرارة بعد أن نهض إليها، وكانت الفوضى تعم الصّالة بالرّقص والغناء.
- لقد أبدعتِ أيّتها الرّباطية.
- وجودك أنساني نفسي، فبِتُّ لا أدري ماذا أصنع فرحاً وسعادةً، ثلاث سنوات طويلة يا أدينان، طويلة جداً، إنّ وجودك المفاجئ قد أذهلنا جميعاً، كي ( )داير يا أدينان.. لا أظن أنّك بخير.. ماذا تركت وراءك؟ هل أحرقتَ استنبول؟.
- لا، بل هي التي أحرقتني، وقذفت بي إليكِ، بِسحرك.


بهاتين الشفتين، أكان لِزاماً على هذا الجمال أن يبهر الاستخبارات هنا ليوظّفك لأجله، أم أنّكِ نَشيطة.
" جلسا متحاذيين، بعد أن أفرغ "زيريني" مكانه لها، واحتل آخراً "
لم تندهش "فاطمة "من مواجهته لها، وعيونهما لم تفترق بعد عن بعضها، رغم الضجيج والرّقص والغناء الذي ملأ أركان الصّالة، قالت بعد أن ابتلعت ريقها حياءً، والأضواء الملوّنة تعكس خيالاً ساحراً على وجنتيها الجميلتين:
- توقّعت عتابك "أدينان"، حتى قبل رؤيتي لك، فالأمر لا يتوقّف على وجودي في هذه المدينة، إنّه مفروضٌ على جميع الفتيات اللاتي يعشنَ فيها، ولا خيار لمن ترفض سوى القذف بها بالبحر، أو التّرحيل.
" صمتَ أدينان قليلاً، ثم أضاف بحرج:"
- لا عليكِ يا "فاطمة"، يكفيني أنّكِ بخير.
أنا لا ألومك، فلكل مخلوق منّا أمره ودوره بين هذه الخليقة.. عندما تنتهي هذه الحفلة، سوف نغادر للنوم، وعليّ أن أراكِ غداً قبل أن يطلبوا منكِ استفساراً، لقد تورّطنا.














كان قلق "أدينان"، أقوى من اشتياقه للانفراد معَ فاطمة، عشيقة الماضي، فالحدس لديه أقوى من الواقع، رغم الثقة المطلقة بإخلاصها، بينما هي معدومة لديه، فيما يختص بأجهزة الأمن، وكما هو معتاداً دائماً.
كان على يقين بأنه قد تورّط بحضوره الحفلة، والتي أُقيمت من أجله وكذلك "سليم" الذي شعر هو الآخر بخطئه الكبير، حيث تغّلب عليهم جميعهم حماس الالتقاء، بعد الفراق الطويل بينهم، والذي لا يختلف بدوره عن سلوكية "أدينان" و "زيريني"، أو الآخرين الملتفين حولهم بالخفاء، فقد كان يعيش بشخصية مزيّفة، بعد أن تمّ له الهروب من "استنبول" قبل عامين، والتقى بفاطمة، بعد أن جمعه "أدينان" بها في المدائن، من أجل تجسيد نفوذه، ومن ثم اكتمال حركته لاعتبار احتياطي، وهو قانون يطبقه "أدينان" على رفاقه المطلوبين على الجرائم المفتعلة لاستمرارهم في بلدٍ بديل، حيث أصبح "سليم" من خلال هذه النظرية يقود بعض النشاطات المهمة في شمال إفريقيا والتي يعود تمركزها إلى مدينة المدائن، وتحت أمرته والذي يعتبر عمله فيها من أخطر ما يمكن وصفه عن باقي المدن الأخرى، لطبيعة النظام السائد فيها، والمقلق في جميع المجالات الحياتية، خاصة ما يتعلق بالقيود الاجتماعية والتي يتمحور فيها الطابع العسكري تجاه الغرباء، مما رسّخ ذلك في شخصية سليم الكثير من الشدّة والمراس، وصلابة الحنكة في عقليته، والذي أرسى ماضيه مع أدينان قيادة متميزة في سرعة تنفيذ الأمور المعقّدة ، وتنظيمها مع مجموعته.

ارتأى "سليم" منطقة الشاطئ الشرقي من المدينة، كمركز انطلاق للبدء بالمراقبة والتّفحص، لتكون تلك المنطقة نقطة الالتقاء فيما بينهم وبين "فاطمة" بطريقة سريّة.
كان قد جهّز "سليم" لـ"أدينان" مكاناً وسيارة يقودها، تقف بمنأى عن السيارة التي تقلّه مع "زيريني"، بحيث كان قد تم الاتفاق المسبق بينهم جميعاً دون فاطمة أو علمها، على أن يلتقي "أدينان" بدوره مع فاطمة بسيارته، ومن ثم، يمكن له أن ينطلق بها في جولة على طريق الشط، حول المدينة، بحيث يكون قد تسنّى بعد ذلك لـ"زيريني" و"سليم" مراقبة السيارة التي تقل فاطمة والتي يقودها أدينان، مما يُفضي ذلك إلى استطلاع أو اكتشاف من يمكن له مراقبتهما، خاصّة من قبل الجهاز الذي تعمل لديه "فاطمة"، وهو الجهاز الأخطر، في شمال إفريقيا.

























بالموعد المتفق عليه توقّفت السيارة التي يقودها "أدينان" بمحاذاة "مقهى الفندق الكبير" وعندما رأته "فاطمة" من خلال زجاج المقهى الموازي للشارع الرئيسي، خرجت مسرعة، ثم انطلق بها "أدينان" متجهاً عبر "ميدان الغزالة" المشهور ببطء، ليتجاوزه ناحية فندق الودان الواقع على البحر تقريباً.
وعندما وصلا بعد ثلاث دقائق، تابعه سليم بسيارته والذي يرافقه "زيريني"، بعد أن كانا ينتظرانه من كراج فندق الودّان، وقد تعمّدا مسافة مائتي متر كانت تفصل بين سيارتيهما، حتى نزح "أدينان" إلى طريق الشاطئ المؤدي إلى منطقة سوق الجمعة، ثم استمر بالقيادة وهو يحادثها في طريق العارضة، التي أصبحت خالية تقريباً من السيارات.
فسألته:
- لم تجبني بعد، لماذا جئت إلى المدائن فجأة.
حار كثيراً وهو يخترق الطريق بعينيه. ثم قال دون تردد:
- حصلنا على أسلحة متطورة، كان يمكن لنا أن نذهب بها إلى فلسطين عبر الجنوب اللبناني، اكتشف الموساد الأمر ووجد ذريعة لدى المخابرات التركية من أجل المساعدة في التخلص منا.
احتواهما الصمت طويلاً وأضاف سائلاً
- لكن هل عرفوا بوجودي هنا.
توتّرت قليلاً، ثم أخذت تنظر إلى وجهة، وقالت.
- لم يتسنّ لهم ذلك.
بعد جولة طويلة بالسيارات، قطعوا بها مسافات متفرقة، وعندما تأكّد جميعهم على مدار ساعة متواصلة من خلو أية مراقبة نحوهم، وعندما كانوا من خلال تجوالهم في منطقة "قرقارش" اجتاز "سليم" بالسيارة التي يقودها سيارة "أدينان" وفي إحدى الضواحي الخابئة في المنطقة، دخلتا المركبتين معاً، دون أن يثيروا انتباهاً لأحد بحيث كان يعود المنزل لشخص يدعى "علي" وهو من مجموعة "سليم"، ويستخدم المكان مقرا لنشاطهم ويجتمعون فيه كلّما توفر لهم ذلك.


كان قد حلّ عليهم الظلام، عند دخولهم، حيث انشغل "سليم" حينها بالاجتماع مع "زيريني" وعلي، الذي أخذ بإعداد القهوة، من أجل ضيوفه، ثم خرج وقدّمها لـ"أدينان" الذي كان يجلس مع فاطمة في حديقة المنزل الواسعة، التي كانت تظلّلها الأنوار الملوّنة، من خلال الأشجار.
تبادلا النظرات قليلاً، وقد بدا "أدينان" حائراً، وليس بحوزته شيءٌ للحديث، بينما كانت "فاطمة" تغمرها السعادة بهذا اللقاء، بعد فراق دام طويلاً، كانت البسمات تتطاير من شفتيها باستمرار، وتحيط بها البهجة، أمّا أحاسيسها فقد كانت لا تسعفها على التفوّه بشيء، رهبةً من الوهم الجاثم أمامها، رغم إدراكها التام بخلفية سلوكيته الحادّة، والتي لا تبادر أحداً أمامها بكلمة، مهما كانت درجة قربها منه، فالصمت كيانه، وكانت تكفي دواخل عينيه الحديث بحدقتيهما، لشيءٍ ما يمكن فهمه، لتستطلع باستقامة ما يحيطها.
لكن، "بلحظة"، تجرّأت "فاطمة"، وهي تجلس أمامه تراقبه، وقالت بلهفة دون أن تفكر:
- ليتني أتوصّل إلى ما بذهنك، يا "أدينان"، صَنَعت الدنيا فيك الغموض، وليس بإرادتك، إني أتعاطف مع صمتك، وأتجنّى على قدرك الذي فعل بك هذا.
أدار "أدينان" بوجهه، وحدّق بها بعينيه، وَجَد في بسماتها فتنة غابت عنه طويلاً،، ثم تنهّد لا شعورياً، وقال بصوته الخافت:
- بماذا تفكرين يا فاطمة.
فسيطر عليهما الصمت قليلاً، وهما لا يتفارقان بعيونهما.
حتى ردت عليه:
- أنت والماضي متناقضان دائماً يا "أدينان " ألا تريد أن يفارقك هذا الصمت القاتل " لن تجد من يفهمك مثلى، رغم سكونك، توقف أيها الحبيب، وسوف تعيش كالآخرين سعيداً، تجاوز الماضي وأنالك.
لم يشأ "أدينان" أن يجاملها بشيء، لكنه قال لها بصراحة هادئة:
- لحديثك هذا نهاية عندي يا فاطمة.
أدركت مقصدَه جيداً، إلا أنها تجاهلت الأمر، واستمرت بمداراته .
- بإمكانك الاستمرار كالآخرين "أدينان"، أُهجر دائرتك التي تحيطك، سوف ترى الدنيا بمرأى أخراً.
خيم عليهم السكون، وسادهم الهدوء، الذي يأتيهم من كل مكان في ظلمة الليل التي أخذت طالعها، تأمل "أدينان" الظلام، بينما أطيافه التي يتخللها النور المنبعث إليهم، كان يهيج بدخان سيجارته.
غمرتهم نسائم الهواء المنعشة، القادمة بها أغصان الأشجار الكثيفة
فانتشى "أدينان" الحياة.
أما "فاطمة"، فلم تسعفها ذاتها على الهدوء دون توتر دواخلها وهي تلتمس في عينيه ما تراه من خلال النور المنبعث إليها، الذي يعكسه وجهه، وعندما تسنّى لها أن ترى بريقه القاتل.
كانت الحديقة محاطة بسورٍ عالٍ ضخم، وبدت لها المنطقة خالية من سماع الأصوات، تفحّصت ذلك بتوترها وعينيها الحزينتين، واحتبست أنفاسها بعد أن تنهّدت، دون أن تشعر "أدينان"، بينما أدركت نهايتها دون أن تصدّق أحاسيسها، أما أدينان فقد كان يفسّر أنفاسها دون أن يشعرها، رغم ذلك فقد كان سيّان لديه أن تعلم حقيقتها لديه أم لا.
تذكّرت "فاطمة" نفسها فجأة، واخترقت الصمت، وأضافت بعد أن رمقته بنظرة تكاد فيها حنجرتها أن لا تخرج صوتاً.
- لم تجبني يا أدينان بشيء، تراني أتحدّث، ولا تسمعني.
تجمّعت أفكاره فجأة، وتذكّر كلماتها، ثم استند بيديه على الطاولة وتناول قهوته
- سبق وأن فكّرت ملِيّاً فيما تقولينه، لا يمكن لمتورّط إلاّ أن يزداد غرقاً، كثيرون من حولي أرادوني، ولو خرجت من دائرتي، سوف أكون سهلاً عليهم، إنّهم يطاردونني في كل مكان من الدنيا، وأيديهم قابضة والأمر لا ينتهي عندهم. لكن ولِتعلمي أننا دخلنا في مواجهة مع الاستخبارات الإسرائيلية، وعلينا أن نبقى أقوياء.
تلعثَمَت "فاطمة"، أما حيرتها الظاهرة لـ"أدينان" جعلتها تقول بعفوية صادقة.
- بإمكاني مساعدتك، إنني على علاقات متينة مع كبار الأمن الخارجي هنا.
تجاهل أدينان حديثها ثم أضاف:
- يمكن لهم أن يقوظوا هذا النظام من أجل القضاء عليَّ يا فاطمة، فأنا أدرك معاناة عواطفك معي، ولكن هذا لا يُجدي، بعد أن حاولوا القضاء عليَّ ومزّقوني برصاصهم ثم نجوت. المشكلة أنّنا لا ندري من أين يأتي هذا العدو في كلّ مرّة، إنّهم يقتلون الهواء الذي أتنفّسه، ولم يبق لي سوى "زيريني"، بعد أن قضوا على العشرات ممن هم قريبون مني، حتى وصلوا "مازن" في إيطاليا لشرائي منه، إلاّ أنّه رفض، لهذا السبب تنقّلنا بين العديد من البلدان وبعدّة أسماء، لتضليل الأجهزة الأمنية، حتى الوصول إلى هنا بهذه الطريقة براً وبحراً، ومن ثم الاستمرار حتى الرباط.
- لكنهم متمكنون هناك، ولديهم الوكالات في جميع المجالات.
- نعرف ذلك، ولكننا أيضاً سنكون متمكنين.
- لما لا تستمر هنا، ألن يكون لك أفضل.
ابتسم، ورمقها بنظرة، أدركتها جيداً، وكانت قد تناست ما يمر بها من أمرها معه، ثم قال بهدوء:
- أتريدين أن يُقذف بي بالبحر كصاحباتك؟
- تقصد..!!
- أنتِ تعلمين قصدي جيداً، حتى أنهم إذا تأكَّدوا منك وعلموا بأمري سوف لن يسلم أحدنا.. إنّهم هنا يعتمدون على الفتيات بالمعلومات.. ومن أجل هذا يمكنهم أن يتخلّصوا من هذا النمط من الناس لينتهوا من مشاكلهم مع الآخرين، فإنّ لدي ما يكفي عن هذه البلاد، وطبيعة أجهزتها، وهاهم أودوا بكِ إلى الهلاك رغماً عنكِ، إنّ هذه الشعوب لا يُكبح جماحها سوى الظلم والاضطهاد، وكثيراً ما أغَرُّوا بفتيات أمثالكِ، وعندما ينتهي لديهم دورها، تُقْذف بالبحر، من قارب عسكري.
"سادهم الصمت قليلاً ثم أضاف": ليس لديكِ عندي سوى..
- ماذا يا أدينان .. لما لا تكمل حديثك.. هل ستضيفني إلى قائمتك، يمكنني السفر الآن وترك البلاد، سوف أنتظرك هناك، إنّني أحبّك يا أدينان، أرجوك..
- لن تسعفك الباخرة القادمة بالهروب.. فلديها من الوقت للإبحار خمسة أيام بعد، وهذا حري بأن يكتشفوا أمرنا على يديك، لو كلّف لديهم موتك، وليس عندك ما تملكينه غير الحياة، ولو أحببتني حقيقة ما عملتِ معهم طوال هذه السنوات التي مرّت، أو أنّه كان بإمكانك إخباري قبل رؤيتي لكِ، أما الطائرات الآن فلا يسعها حملك، وهي الطريقة الأسهل لهروبك من هنا، لكن للأسف يا "فاطمة"، فهو مطبّق عليها قرارات الحظر ولا مطارات تعمل، وقد فكّرنا بإخراجك عن طريق تونس، سوف يكتشف جهازك الأمر، ويقبضون عليكِ قبل سفركِ لأهمّيتكِ عندهم، إنّ المحبّة يا فاطمة، ليس أقوى منها سوى الموت، ولا سبيل لديْكِ، أما دوافعنا، فهي أقوى من وجودك، ووجود هؤلاء، فبينما أنتِ تعيشين من أجل المال وهم من أجل وجودهم، فلنا الحق نحن بالاستمرار، دون أن نطيح على أيديكم، وإرادة الحياة عندي لا اعتبار فيها أمام طموحاتك.
- أهكذا تُعزيني يا أدينان..!
- ما وهبته لكِ لم أهبه لغيرك.
اغرورقت عيناها بالدموع. حزناً على نفسها، لم تكن تتصور أنها ستواجه كل هذا.. فهل كان هذا هو قدرها لأنها أحبّته، وأخلصت له طوال السنين التي مضت، لقد أقسمت على نفسها منذ الماضي البعيد أنها ستكون من أجله يوماً ما، لكن أقدارها ظلّلتها دون دراية، وازدادت الحواجز بينهما وتعقّدت، لتجد نفسها قد ابتعدت عته كثيراً.. وأنّ هذه الهيبة التي تركن أمامها، لن تجسّد غير الاستسلام لهذا الواقع المرير، وليس لديها إلاّ طلب العون من الله، كان قد شرد بها فِكرها بعيداً، وتذكّرت كلماته الماضية، والتي أظلم عليها الزمن، وتوارت مع الأيام عندما قال لها يوماً: إذا قدّر الله لي ولم أجدها لن تستحق إنسانة حبّي لها غيركِ. حبّه الذي لم يملكه يوماً، لأنّه لم يسبق وأن ملك قلباً.
ازدادت دموعها لتنهال بكثافة على خدّيها، ومن ثم إلى الطاولة التي تستند عليها، وعينيها تسائله كيف؟ بينما هو يحدّق في الظلام..
- رغم أنّي عرفتك مجرماً، وقاتلاً، ورغم أنّك لست بشراً كالآخرين لتملك قلباً، ما زلت أراك طفلاً، لم يكد يخرج من حضنِ أمّهِ.. من أنت يا أدينان؟ أنا أجهلك حقيقة،ً ولا أعرفك، حتى أنّي لم أدرِ بعد من أيِّ أرضٍ أنت، لقد عرفتك كما أنت جاثماً أمامي الآن ساكناً كالليل، كالنجوم المكابرة في أعالي هذا الظلام الذي يحيط بنا، وعرفتك بهذا الوجه الصّامت كالريح الغادرة، الذي يستمد وجوده من عتم الليل ، من أين؟ من أين أتيت بهذا الشموخ وهذا الكبرياء يا أدينان، أمِن أسدال الخلق أم من رقابِهِ، حتى الآن، ومنذ سنوات مضت لم أتجرأ بعد أن أسألك، شيئاً عن نفسك، لكنني أدركت فيك عاطفة غامضة، إنها ليست لأمثالي، وكذلك سخاؤك المبهم.. وعرفتك دائماً خائفاً، خوفاً يخشع بين ضلوع المشردين أمثالك المطاردين بقوّتهم حتى من أنفسهم، الخابئين خلف الظلام في كلّ مكان.. إنّي أتمنى الموت لأجلك، وعلى يديك اللتين مزّقتا عنفوان أعتى الرجال.. إنّ ذلك يشرّفني، كم أُحبّك يا أدينان، وآه لو تدري، حتى أنّني مهما بحثت فلن أجد مثلك،مثل كلّ هذا الصمت الخائر في قواك يا أدينان، قل لي شيئاً، فأنا لا أجرؤ على طلب هذا منك بعد الآن، ألا تتنفّس عن ذاتك بشيء، وكيف ستعيش تحتمل كل هذا؟! كيف! ألست من هذه الخليقة، قل لي أيّها الحبيب، كيف ستعيش؟ وكيف ستستمر بعد هنا؟ ليتني أدخل إلى أحشائك، أدخل في أعماقك أيّها الجبل، لأعرف كلّ شيء، أترى، هل جاءت بك امرأة؟ كيف هي؟ ومن؟ أمْ أسقطتك السماء مع قطرات المطر.. أنت تتعذّب بسكونك هذا، إنّك لا تنظر إلي كي لا تعذّبني بعذابك، كي لا أرى ذلك في وجهك، حقيقة يا أدينان.. إنّك كريم حتى في مشاعرك التي تتألّم بنسياني، يخيّل إليّ أنّك جئت إلى هنا لتراني، وليس لتقتلني، أنا لا أصدّق ذلك، فأنت كالآخرين تتمنّى الحياة مثلهم، لكنّك وللأسف لا تستطيع، لأنّك تموت في كل لحظة تعيشها.
استيقظت "فاطمة" من سكراتها، ثمّ تجرّأت بقوّة الحياة التي تملكها، وبصوتها المخنوق، قالت:
- إلى.. متى يا أدينان؟
التفت إليها، وبعد أن هزّت كلماتها مشاعره:
- حتى أنتهي.
- تحدّق بي ولا تراني.
- لا أرى الحياة يا فاطمة.
- ليس من غيرك يا أدينان.
- ألهذا الحد يا فاطمة، لست لكِ بعد الآن.
- من أجل تلك؟ .. ليتك تجدها، سوف أعشقها من أجلك.
- لا أستحق حباً من أحد، وعلى الإنسان أن يدفع ثمناً إذا أحَبْ..
اهتزّ بدنها، واقشعرّ رأسها، فجأة، كمن يستيقظ فزعاً، لفحها الهواء ليمر عن رقبتها اليانعة، استشعرت الحياة وتحسّستها من جديد، بدأ العرق منها يتصبّب على غير عادتها ليطفي على دموعها التي تسيل على خدّيها الأرجوانيين كغروب الشمس، قالت بنبرات خافتة حزينة، النبرات التي تستبق الموت الحقيقي فجأة:
- أهذه.. هي نهايتي أدينان؟.
تجمرت عيناها، وجحدت كلماتها في بطنها، بدأت تتأوه بصوت حاني غير مسموع، كادت أن تصرخ، لكن دون جدوى، ولم يسعفها الحظ، تسلل الموت إلى عروقها و دخل إلى دمائها كوخز الإبر، ثم أحسّت بنفسها يمضي إلى غير رجعة وقد ازرقّ لونها، خرج قهرا مبهما من حنجرتها، كادت أن تخترق صمت "أدينان"، حاولت النهوض عن مقعدها فلم تستطع، كان شيءٌ ما ثقيلٌ يشدها إلى مكانها، أدركت ذاتها وأنها قد انتهت:
- لماذا أيها العزيز، إن لدي عائلة فقيرة.
نهض "أدينان" ببطء والتف ليقترب منها، وضع بيده على كتفها وهي تنازع روحها، شعر بالغدر يسري في دمائه آثما، مرّرت بيديها على طول الطاولة، حاولت المجاهدة بنفسها، وتنازعت مع جسدها لحظات، ثم أحنت برأسها.
تركها "أدينان"، دون أن ينظر وراءه، كان يشتد حفيف الأشجار، وهي تتصارع مع الرياح الدافئة التي تأتي من ساحل البحر القريب، كأنها أصوات غاضبة، ثم توقف والريح تكاد تأخذه معها، نظر إلى السماء المظلمة، وشعر بغضب الإله يحل عليه، تأمّلها وهي جاثية على الطاولة من بعيد، عبر ثنايا الليل المظلم، بينما قليل من الضوء المتدفّق يظهرها له كأنّها ذئبة متقدّه بذاتها، وشعر رأسها يتطاير مع الهواء أو يكاد يحييها، شعر بأصوات غريبة تتهافت عليه بين أسدال الظلام لتهز عظامه على غير العادة، تسمّرت قدماه عن الحراك، ثم أخذت السماء تمطر تراباً عليه، ويأتيه من كل صوبٍ، كانت الريح غاضبة وتجر بتراب الصحراء، الذي يتكوّر فوق سماء المدائن، ليتجمّع كلّه ويطيح عليه، والأشجار تكاد تقتلع من مكانها.
تقدّم بخطاه الآثمة، وقال في نفسه:
- إنّ موتها لا يبشّر بالخير. هذه هي نار المرأة من يطفئها، فلا يمكن له أن يطفئ ريحها.
ثم لَمحَ خيال "زيريني" يقف قريباً منه، فأضاف بصوت مسموع.. هذه هي سُبل المرأة، لقد قالوا قديماً أن كل من يدخل إليها لا يرجع، ولن يبلغ سُبل الحياة، وأنّ الروح تتغطرس، قبل السقوط، ولا أدري أهي أرواحنا تتغطرس، أم روحها والآخرين.
خيّم عليهم الصمت قليلاً، وقد أصبحا قريبين من بعضيهما حتى قال "زيريني" وهو ينظر إلى فاطمة:
- يبدو أننا نخوض حرباً هذه المرّة، وعلينا أن نستعد لها.. سوف يفتقدونها كثيراً، وتصبح سراً عليهم اكتشافه، ولا يمكننا البقاء أو الانتظار أكثر.
أصابته الحيرة قليلاً، وهو ما يزال مع "زيريني" في الحديقة:
- .. أنا ذاهب وحدي، سوف نلتقي في الفندق.
أخذ بقيادة السيارة، يشق الظلام وهو يهيم بماضيها، كانت السّاعة تقترب من العاشرة مساءً. ولا يدري إلى أين يتّجه بسبب الحيرة التي ألمّت به، استمر يسير بزحام الطريق السريع المؤدي إلى مركز المدينة، تجاوز مبنى سوق الثلاثاء عبر الجسر المؤدي إلى محاذاة البحر، حتى وصل "ذات العماد" الواقعة على الساحل مباشرة ، والتف مع الطريق الساحلي إلى أن وصل مصاف السيارات المقابل للفندق الكبير، وتوقّف هناك ثم غادرها إلى كورنيش المدائن حيث زحام الناس الذين يتهافتون في كل يوم من كل صوب ويجلسون في المقاهي والمطاعم المتناثرة على طول الكورنيش القريب من "ميناء الشعاب".
تنقّل بخطاه عدّة أماكن بين ازدحام الناس، واختار مكاناً يقع مباشرة على بعد أمتار من مياه البحر، وجلس. كان المكان ساحراً، والأضواء المختلفة تملأ الكورنيش جمالاً باهراً، طلب الماء والقهوة معاً، ثم أخذ يدخّن وعينيه لا تزال تلازم سكون البحر.. وروعته الداكنة والذي تمليه المراكب المضاءة بالحياة، شرد ذهنه بعيداً وهو يتفكّر ما حلّ بهم فجأة، إلاّ أنّ شبح "فاطمة" كان لا يفارقه.. لم أجد خياراً آخراً أفضل يا فاطمة.. لا يمكننا أن ننتظر النهاية على يديك، كنتِ لا تدرين ما يحيط بكِ .. إنّ مجرد الشّك عند هذه الأجهزة، فيمكن لها أن تقتل أو تعتقل، وبكل الأحوال سوف تكون نهايتنا.. هذا أفضل، ومريحٌ.
ثم عصفت به الذكريات الماضية، حينما كانا في استنبول
.. هيّا يا فاطمة، إنّ سفرك يحين
.. أنت تجبرني على الرحيل.. أنا أحبك، لا يهمّني كيف تعيش..
.. لن تستطيعي الاستمرار بيننا هكذا.. هذه البلاد للمجرمين، ولديك المال الكافي.. دعي هذه الدموع، إنها لن تغيّر شيئاً…













































منتصف الليل، عاد إلى الفندق، تحتويه حسرة غريبة، وجد "زيريني" بانتظاره، جلس على مقعد قريب من سريره، تنهّد وقال:
- هل فعلنا شيئاً ضدّ مبادئنا
طال الصمت بـ "زيريني"، وهو ممدّداً على سريره متفكّراً، لم يجد في نفسه شيئاً ليرد عليه، حاوَل أنْ يتهرّب، فلم يستطع وعيْني "أدينان" تنتظر، ثم قال بتردّد:
- لم أعهدك حزيناً قط، هل أحببتها الآن
- هذا صحيح..
- حياتنا أقوى من الموت يا أدينان.
ثم نهض "زيريني" عن سريره، واقترب من النافذة القريبة من البلكونة التي تطل على أجزاء المدينة، وأضاف:
- لقد اعتدت معك ألاّ أفكّر بخطأ أصنعه، نحن تورّطنا في محيط مجتمع عدواني مختلفاً عن المجتمعات التي عشنا بها، ولن يحتوي أمثالنا بسهولة، ولن يزيدنا هذا إلاّ عدواناً، والخطأ الذي نتوارى عنه هنا سوف يؤدي بنا إلى الموت، ولا يمكن لنا أن نستمر، ورغم هذا فـ"باحرار" ينتظر مني أن تنتظر إلى أن يتم ترتيب بعض الأمور في الرباط، ولا يمكننا المغادرة إلى أيّ مكان دون سفره إلى هناك.
اغتاظ "أدينان" قليلاً، وبعد أن تفكّر هو الآخر ملياً قال:
- لما لا نمضي إلى مصر إذن، ننتظر هناك، يمكننا أن نذهب عبر الصحراء، أليس هذا أأمن لنا وأفضل.
اقترب منه "زيريني" وهو يشعل سيجارته ليقول بغير اطمئنان:
- لا أظن ذلك، في مصر سوف نكون صيداً سهلاً للموساد، ولا تنقصها أجواء الإرهاب، وفي كل الأحوال لن تتركنا مباحث أمن الدولة بحالنا إذا حصل وأقمنا فيها، إنّها متمكّنة وترتبط الأجهزة بمعاهدات التسليم مع كثير من البلدان الآسيوية والغربية وإسرائيل، يمكن لها أن تحلّل الأمور بالتنسيق مع البعض من البلدان العربية الأخرى، ويكون كل هذا خطراً علينا.
- وما هو الحل إذن؟
- هنا أفضل لا توجد معاهدات تسليم، ويمكن للموساد أن يدخل بجنسيّات مختلفة غير الإسرائيلية، وهذا إنّما يحدّد تنقّلهم بين الناس وبالتالي يحجم من قوّتهم، أضف إلى أنّنا انتهينا من نقطة ضعفنا التي كانت تهدّدنا، والتي تمثّلت بخطر فاطمة، أمّا من جهةٍ أخرى، فالمشكلة الوحيدة هنا هي الأمن الخارجي إنّه إذا اكتشف وجودنا، سوف يصنع بنا كما فعل مع الكثيرين غيرنا.





















كان "جمعة” الضابط المسؤول من شعبة المراقبة التابعة لجهاز الأمن الخارجي في المدائن، قد قدم اعتذاراً لرئيسه المشهور ((أبو ساق)) على خلفية اختفاء "فاطمة” التي استثنيت من تنسيق المراقبة الذي نظم بتخطيطه مع الأجهزة الأخرى المختلفة.
فلم يكن "جمعة” بدورة يتوقع هذا الاختفاء السريع لفاطمة في الليلة التي تلت ليلة الحفلة والتي أٌقيمت على شرف "أدينان” بصالتها، بعد أن كانت قد وصلتهم التقارير الأولية، عن وصول اثنين من الرجال يعتقد بأنّهم مشبوهين بعمل الإرهاب الدولي، في العديد من البلدان المختلفة، كذلك الأمر بعدم تمكّن رجال جمعة من متابعة حركة "أدينان" في اليوم نفسه الذي اختفت فيه "فاطمة”، وكانت الإشارة قد وصلت الشعبة الثانية بالأمن الخارجي، قبيل يوم وصول كل من "أدينان” و"زيريني” عن طريق مكتب استنبول.
جلس "جمعة” أمام مكتب رئيسه، وهو يتصّبب عرقاً، بينما “أبو ساق” كان مشغولاً بقراءة التقارير اليومية التي تهتم بوجود "أدينان"، حيث أخذ "أبو ساق” يقرأ على مسمع منه قاصداً بذلك إثارته:
.. لا يزال يمارس حياته العادية بشخصيّته التركية المزيّفة
.. يتناول غداءه اليومي في مطعم الترسانة بمنطقة السويحلي والذي يديره أحد الأتراك بمعاونة الفتيات المغربيات، وأحياناً أخرى في مطعم "الظهرة" التركي أيضاً.
.. يتقن لغتهم، ويتصرّف كما يتصرّفون رغم اختلاف بشرته عنهم، ويقيم العلاقات مع بعضهم.
ثم رفع "أبو ساق” بوجهه، ونظر إلى "جمعة” عاتباً، أشعل سيجارته، ورشف قليلاً من القهوة التي أمامه وأضاف:
- هؤلاء الغرباء كالغِربان، أينما حلّوا يديرون الخراب
- 0، ثمّ نهض على قدميه، وأخذ يتجوّل على مرأى من "جمعة” وهو يضيف:
- .. إنّهم أخطر رجلين في شمال إفريقيا.. حتى أنّهم لم يدَعوا لنا الفرصة للاستفادة من فاطمة بشيء عنهم، يبدو أنّهم قد انتهوا منها، أنا متأكد من ذلك، وهذا النوع من الرجال أفهمه جيداً، إنّها تعرفهم حق المعرفة، وتربطها بهم علاقات ما كانت قويّة، لقد سبق وأن عاشت في تركيا منذ سنوات مضت.
























في اليوم التالي من وصول "أدينان”، أقيمت له حفلة في صالتها يرافقه قرينه "زيريني”، عانَقتهُ تلك الليلة بطريقة ملفتة للجميع، على ما يبدو أنّها كانت عشيقته، عندما تأكّد منها عن علاقتها بنا، تخلّص منها فوراً اعتقاداً منه أنّ سرّه سوف ينتهي معها، رغم ذلك كلّهُ، فقد ظلّلتنا بعلاقتها مع هؤلاء المجرمين، خاصّة "سليم"، حتى أنّ ملفّها عندي فارغاً من هذه العلاقات، ولو تفحّصنا نشاطها جيداً من خلال أوراقها السابقة لوجدنا اهتمامها ينصب حول قضايا المخدّرات والعملات المزيّفة، والعصابات التّافهه.
سَكَتَ "أبو ساق” عن الحديث وانتابته الحيرة، ثم جلس يرتشف القهوة في مكتبه فقال "جمعة”:
- إنه مكشوف لدينا منذ وقت، لما لا نعتقله إذن.
ضحك "أبو ساق” ثم أجاب:
- هذا الأمر لا يعود لنا، العقيد على علم بوجوده منذ دخوله البلاد، لقد طلب منّا عدم فعل ذلك، لأسباب نجهلها، وربّما لأسباب أكبر من أن نتصوّرها، وتقرير مكتبنا في استنبول يشير إلى أمور معقّدة حول "أدينان”، وكما يفسّر، فإنّ منظّمة “مازن” المتواجدة في إيطاليا قد عقدت معه اتّفاقاً على تجسيد الإرهاب والاغتيال لبعض الشّخصيّات في المدائن، وعلى ما يظهر لنا من خلال المعلومات أن “مازن” الذي تربطه مع "أدينان” علاقة إجرامية بالأصل هو الآخر لديه دوافعه، حيث هي صفقة تدعمها جهات غربية وربما مخابراتية.
وقد سبق لـ"مازن"، وأن ساعد وفتح الطريق لـ"أدينان" وحركته بتصعيد الحرب مع العصابات في استنبول، حيث خرج منها منتصراً، ولسوء حظّه، فقد تبيّن أنه وراء انفجار سفارة إسرائيل أواخر الثمانينات، وقد قوّظ الكثير من المصالح اليهودية هناك، مما زاد ذلك في تورّطه دون دراية، وقد استطاع الموساد الإسرائيلي إطلاق الرصاص عليه وإصابته، إلاّ أنّه خرج حياً بعد العلاج الذي تلقّاه، وعُقد الأمر باتّفاق كان قد تمّ بين الموساد وأعوانهم المتواجدين في استنبول للقضاء عليه وعلى رجاله، وقد قُضي على خمسة من أفراد حركته الأقوياء، ولم يتبقّى له منهم سوى "زيريني" والذي هو من أصل مغربي لأم فرنسية، وكذلك "سليم" الذي ظهر مجدداً، حيث هو من أخطر المتحالفين مع “أدينان”، منذ سنوات وسوف تزوّدنا أجهزتنا عنه بالمعلومات الوافية قريباً.
فصل

بعيداً عن مدينة "مكناس" بنحو عشرين ميلاً ناحية الشمال الغربي، حيث الرّوابي والسّهول، كان المنزل الذي يأْوي عائلة "الوردي" قد أخذ يتصدّع ببطء لِقِدم بناءه المكوّن من الحجارة والطين، والذي بات يهدّد أفراد العائلة، كذلك الأمر بالنسبة للبقرات الثلاث، اللاتي يقضين الأيّام الباردة في خان يتبع النُّزل، حيث الشمال من أطلس يغلب عليه الطّقس البارد والذي لا يُطاق في منتصف الشتاء من كل عام.
"آمال" والتي أبلت من سني عُمرِها ثلاثون شتاءً، كان حبّها للبقرات، كحبّها لأفراد عائلتها، كونها تُدرك بحذاقتها الفطرية التي تمتلكها من أنفاس أطلس، إنّه من غير الاهتمام بمصادر الرّزق للعائلة لن يستطع أحدهم العيش بيُسر، كذلك الاستمرار في مواجهة الطبيعة القاسية التي تفرضها عليهم الحياة بتقلّباتها، حيث لا يوجد بالتالي ما يدُر عليهم ما يكفيهم لقوت الأيام سوى حليب البقر، والذي يمكن لوالدتها العجوز من تحويله إلى الجبن وغير ذلك، ليتم عرضه أواخر كل أسبوع في سوق المدينة وفي "باب المنصور" المزدحم بمثيلاتها.
اليوم الذي يمضي على "آمال" كان يذهب معه الكثير من الهم والحزن، بسبب أعبائهم الحياتية، الذي بات يهدّدهم تناسل أفراد العائلة والفقر، والكِبر في السّن، والمرض في أحيان أُخرى، فمن ناحية، فقد أصبحت تتحسّس ضَياع عمرِها وجمالها الفاتن القابع في ثنايا شالها العتيق، والذي كوّن في بواطنها عُقَداً لا توصف، دون سبب يبرّر لنفسها أسباب ذلك رغم إدراكها صنع أقدارها، ولربّما نهجت ذلك لصعوبة الحياة، حيث أربكها حتّى التقرّب أو التعامل مع الرّجال، لتستمر إزاء ما يواجهها ولدوافع ما خفيه في الرّعي والزراعة، وفي أحيان أخرى ترافق والدتها العجوز نهاية كل أسبوع إلى "باب المنصور" في مدينة "مكناس"، ليتراكم الروتين في أمرها، ومُذ كانت طفلة إلى سن الثلاثين من عمرها، حيث الطبيعة والوحدة القاتلة قد مضت على الطفولة ليتظلّل بها شبابها وليتوقّف دون أدنى حياة عاديّة، يمكن أن يمنحها التغيّر قليلاً. ومن ناحية أُخرى فقد كانت أفكارها تتنازع دائماً في أمر عائلتها، فأخوها الأكبر منها، كان قد ذهب أدراجه قبل سنوات مهاجراً، حتى اختفت أخباره نهائياً، والأصغر اعتاد على تعاطي الحشيش بطريقة محزنة، وهو يدور بين الرّاوبي والمرتفعات، متسكّعاً هنا وهناك هرباً من الدنيا وهمومها، حتى أصبح منطوياً على نفسه ولا يكلّم أحداً، ويعيش في عالمه وأوهامه، حتى أصبحت “آمال” لا تراه ليوم أو يومين وربّما أسابيعاً في بعض الأحيان، حيث كان يهيم بها مع أصحاب الكيف في جولات طويلة.
تزوّجت أختها "خديجة" والّتي تكبُرُها سنّاً من أحدهم، والذي أصبح زوجها يخضع لظروف صعبة، حيث سكن ضمن أحد الأحياء الشعبية القريب من مدينة مكناس ليصبح لديها أختين كانتا قد تزوّجتا، ويعشن في ظروف صعبة، أمّا الأخت التي تكبرهم جميعهم فقد أصبحت عجوزاً مثل والدتها والتي لا تملك حتى الأسنان، حيث كانت تعيش مع العائلة في السهل.
كثيراً ما كانت والدة “آمال” ما تفكّر بها، وتحمل لأجلها هماً بائناً في عينيها الصبورتين واللّتين قد أذلّهما العمر.
جعلت الحياة من "آمال" متمرّدة، لكن باختلاف تمرّد الآخرين، ممن يشكون بؤس الحياة، وحرمانها، فقد كان يكفي لحدقتي عينيها أن تمتلئا بالدموع دائماً ليفيض على خدّيها الورديّين بغزارة، احتجاجاً منها على صنيع الطبيعة، لتقف هذه الدموع كاشفاً على بواطنها أمام أفراد عائلتها، حينما كانت تطيح منها دونما إرادة على ذلك الوهم الذي أحبّته واختفى.
من سكون الليل وشاعرية قمرته، ومن غوامض أطلس، وسهوله الماجنة، كان يفضي الصّمت لـ"آمال" بالتفاؤل والخشوع إلى أمر الدنيا، فرغم ما يواجهها فهي لم تتوانى لحظة عن تحدّي الحياة وطبيعتها، حيث الأمل يسكنها دائماً، كما يسكن الليل بواطنها، كثيراً ما تفكّرت في ذكريات دراستها الطفولية، والتي لم تسعفها الأحوال البسيطة من إدراكها، وقلبها قد تعلّق بذلك النور، الذي كان يمكن له أن يغيّر في مجرى حياتها الكثير، إلاّ أنّ بُعد أماكن التّعليم عنها وعن ديارها ألزمها ذلك، لِما يتطلّبه الذهاب والإياب من جهد ومال لتستمر، ولشغفها بالتعلّم، فقد استطاعت الاجتهاد، وتتعلّم القليل من الفرنسية والعربية بعد لغتها الأم "الأمازيقية".
ورغم الجمود والروتين الممل، واضمحلال الأمل، فإنّها اعتادت أن تظهر وكأنّها تلك الفتاة السّعيدة في حياتها، ولا تكاد السّعادة تفارق شفتيها حتى أنّها لا تكاد تظهر لأحد ما تعاستها، والليل في كل يوم يأتيها معذّباً ومعاتباً وفي بعض الأحيان مواسياً لها، عندما كانت تألم للمجهول أو التلال التي تنحب في ظلماتها.
لم يعرفها أحد ما من سكاّن اليعربية النّائية، إلا وأحبّها، وكنّ لها كل العاطفة والتقدير لعفويّتها وسماحتها إضافة إلى ذكائها الشّاذ، حتى اكتسبت وجودها عند الكثير من سكّان تلك المنطقة المتناثرين في كل مكان، رغم إدراك الجميع ممن هم حولها بمدى تعاستها التي تتملّكها، لكنّ ثوبها العتيق وشالها الذي يلتف حتى عنقها أيضاً، لم يكسبانها سوى الاختباء في ثنايا فتنتها وجمالها كالعادة والاقتراب من التقهقر لقوّة الزمن الذي يطغى على سكان الطبيعة المترامون أمثالها، الذين لا حول لهم من الدّنيا غير التّحمل والتّأوّه، حيث أدركت بذكائها المدينة، وأدركت ما يحيط البشر من تقدّم وتحوّل، والذي لم يحتضنها، عرفت أنّ هناك شرقاً تشرق منه الشمس، وغرباً تغرب إليه، غير أنها استرت بين السهول الواسعة .و التي لم يدركها الكون .














العرافة " كنزة" صاحبة الثمانين عاما من سني عمرها، و التي تعيش في بيت صغير من الطين و الحجارة، كباقي البيوت الأخرى المهجورة، كان بيتها في جوف الجبل الصغير القريب من منزل آل الوردي، و التي عُدّتْ ابنتهم " آمال " ابنة لها" والتي إذا ما مرت عليها كل يوم أو الآخر فإنها تفتقدها، وتتحسس أحزانها التي يمكن لها أن تأخذها بعيدا إلى السهول و التلال هروبا من الدنيا.
العجوز قدمت اليعربية قبل عشر سنوات تقريبا بعد أن طردها أحد زعماء القبائل المتدينين، لإتهامها بالشعوذة بين فتيات القبيلة، كانت آمال قد تذكرتها بعد غياب استمر يومين، ولأن العجوز عادةً لا تملك شيئا لقوت يومها، حملت إليها آمال الجبن و الحليب و مشت صوبها أما العجوز بدورها فقد كانت متأكدة بأن موعد آمال قد آن لرؤيتها.
أسعفتها عصاها، عندما أخذت الشمس بالانحدار، و صعدت الرابية المرتفعة المطلة على السهول البعيدة، وقفت وقد أسندت ظهرها وحدقت بعينيها الذابلتين ثم تنهدت، لم تستطع الصمود بتصنمها أكثر و ظهرها المقوّس قد أخذ يؤلمها، فجلست على تراب الرابية وتربعت كعادتها، و قد غطست بين الأعشاب البرية على حافتها وقد ظهر منها رأسها فقط و شيئا من ثوبها الأسود، كان وجهها الذي مزقه العمر الغابر لا يختلف كثيرا عن طيات الروابي المتسلسلة عبر السهل ومنحدراته.
تأملت الشمس مع انخفاض حرارتها قبل الغروب، رفعت يدها لتحجب بها عينيها عن أفق الشمس المائل، ثم أفضت بها إلى السماء التي تزهو بصفاء غيومها الزرقاء أنعشها نسيم الهواء المتدفق عبر السهول الغربية، وهي تشد بجفون عينيها تمعناً، ولتتمكّن من الرؤية جيدا عبر المدى الواسع البعيد، لم تستطع مقاومة لهفتها واشتياقها لرؤية " آمال " رغم يقينها بأنها ستراها.
طال انتظارها، واستيأست قليلا مع مرور الزمن، فأخرجت علبة تبغها التي تحتفظ بها داخل ثوبها المرقّع، وأخذت تلف بسيجارتها، حتى أكملتها بأصابعها الرّاجفة، أشعلتها، ثم أخذت تنفث بدخانها، محاولةً صرع الهواء بهِ، إلاّ أنّ الريح الشديد كان يصرع دخانها المنبعث من فمها ليبعثره حولها و ليتطاير مع الريح.
لم يخب ظنها اليأس من رؤية “آمال” مرارا، حتى رأتها قادمة تترنح عبر السهل البعيد، وهي تحمل شيئا في إحدى يديها، و تتغاطس بين الأعشاب بينما قامتها المتوسطة القوية البنية، تسعفها على مجاراة الريح الغربية التي أخذت تشدها إلى الوراء، وهي تتأملها كالنملة تسير نحوها من بعيد.
انتشت “العجوز” الحياة، وتنفست الريح بشدة، لتخرج معه من بواطنها وأعماقها الكآبة و القليل من الدخان المتبقي في رئتيها، وقد غمرتها سعادة مفاجئة. فهي لم ترى أحدا منذ أيام، غير الوحوش التي ألفتها، و لم تكلم أحدا غير " آمال ". التي تؤنس وجودها وحياتها.
توقفت " آمال " بعد أن اقتربت منها وهي تتمعنها مبتسمة، و كانت قد صعدت الرابية، أخذت نفسها عميقا، بينما العجوز تنتظر منها تحيتها المعتادة، أما آمال فقد سكنت عيونها حسرة عليها فقالت العجوز بنغمة تنم عن شقاء غابر.
- انتظرتك طويلا.
- تقدمت " آمال" منها قليلا. و قرفصت أمامها، ثم وضعت بكيسها جانبا، وهي تضحك، فقالت مازحة :
- افتكرتك قد مت بعد هذا الغياب عنك.
تنهدت العجوز، ثم نظرت نحو الأفق البعيد .
- لن تجديني قد مت، قبل أن ينتهي دوري في هذه الدنيا إنّ أقدارنا في الحياة منتظمة مع أعمالنا.
تململت " آمال" بحيرة حانية عليها ثم أضافت:
- لا عليّ بنظرتك للحياة .المهم لا بأس عليكِ أيتها العجوز…
أراكّ حزينة، هل أنتِ بخير.
تمتمت العجوز بكلمات غريبة اعتادت أن تنطقها وأجابت:
- حينما تتأخّرين عليّ لا أكون بخير.
سادها الصّمت، وهي تنظر إلى فتاتها الضّاحكة، ثم أضافت: اجلسي جيداً، وهاتي يدكِ، وكانت قد أشارت لها بموضع الجلوس على الحصى والأعشاب اليابسة.
جلست "آمال” وأخذت العجوز تحدّق بها باندهاش، ولم تلقي بالاً للكيس المُلقى جانباً، فطرحت بيد "آمال” على التراب وهي لا تزال تمسك بها، ثم رفعتها وقلبت كفّها تجاه عينيها، وبدأت تتمتم بكلماتها الغريبة تتأمّل كفّها الذي التصقت به حصوة صغيرة، واشتدّ تمعّنها كمن يقرأ شيئاً داخل الكف، ثم رفعت برأسها، وتأمّلت عينيها.
- اقلبي كفّك نحو الأرض.
ففعلت آمال، وسقطت الحصوة المتعلّقة براحة يدها ناحية الشرق بينما "العجوز” تشدّ جيداً على قبضة يدها وهي ترتجف، وبعد صمت غير طويل أضافت، ربّما يجمعك الأمر برجل يأتيكِ من الشرق ليرسو عقله في قلبك، كما تعلّق هذا الحجر في راحة يدك، وأخاف عليكِ إن قذفتي به، كما هو الحال في سقوط الحصوة من يدكِ، أن يقذف بكِ في البحر، فلا تفعلي.
أصابت الدّهشة آمال لمّا سمعت، وتلعثم لسانها، لا تدري ما تقول، ثم حواها الصّمت، والرّيح لا يزال يئِزُّ من خلال أذنيها، تمعّنت بوجه العجوز الذي يرتسم فيه بؤس الماضي وشقاؤه، بينما هي مشغولة في كفّها ثانية، بشموخ الواثقة ممّا قالته.
حدّثتها العجوز فجأة بأمر غريب على غير عادتها تحدّثت لها بطالعها، ليس كالمعتاد وكما ألِفتها، بل تحدّثت وكأنّ هناك حقيقة قادمة مبهمة تجول بدنياها، أدركت أنّ العجوز تخفي شيئاً ما، وهناك ما يمنعها عن الإفصاح به، وكأنّ لسانها قد تربّط والذي جعلها لا تجرؤ على الكلام أكثر، تمعّنَت العجوز عيني آمال وسالت دمعة عجفاء قاهرة على خدّها المترهّل بطيّاته، أمّا آمال فقد احتبست أنفاسها، تفكّر فيما قالته لها، وما تفوّه به لسانها من غير إرادة، لكن حذاقتها ومهارتها في فهم الأنفس، جعلها تدرك بأنّ عيني العجوز تقول لها ما عجز عنه لسانها ليكمل لها طالعها، والغموض أفضل هكذا كانت تحدّث العجوز نفسها.. لن أستطيع القول أكثر، أنا لست عالمة بالغيب، بينما هكذا يحدّثها طالعها، وهذه هي حقيقتها وللقدر أمره لقد كلّمتها عن رجل.. عن الشرق.. عن شيء ما يشق لها طريقها في دنياها هذه الفتاة ذكيّة، وليس عليها سوى التروّي في أمورها، وعليها أن تدعو الله ليغيّر لها مجرى دنياها.
جحدت "العجوز” ما عرِفته، ونازعها في دمائها التي أخذت تتوهّج سخونة، لتحتفظ به لنفسها، فهناك ما يمكن قوله، وما لا يستطاع قوله والأخير من صنع الخالق، وليس لإرادة الإنسان فيه من محرّك، فهي أحبّت آمال، كما أحبّت جمال الطبيعة الساكن من حولها الذي كانت ترى فيه الجبال العالية بكبريائها وسهولها وروابيها المنحدرة خشوعاً، التي تعلوها نجوم الليل الحالم، وكأنّ كبرياء الكون أنصاف الليالي المظلمة مضيئاً في عينيها، وبدرة في شفتيها الوضيعتين، عندما يشق أسحار الليالي الغامضة.
والإنسان يحيا طائعاً أحياناً، وربما يشعر بما يحيط به وما سيأتي به قدره، إلاّ أنّه لا يقدر على تجاهله ليستمر طائعاً ذليلاً، ويمكن لصنيع الكون والطبيعة وما يحوي من خليقة أن يمتثل في جمال امرأة وسلوكها، وفتنة الطبيعة في لياليها الساحرة، والذي يمكن لامرأة أن تستمدّها من روعتها حتى دون إدراكها.
تكوّرت الغيوم حينها، وتجمّعت مع غموض الكون وغروبه غاصت الشمس في الأعماق، خلف التلال البعيدة كالخيال، لتطيح في ذاتها إلى المجهول، وتنتزع معها قلب آمال وعقلها إلى ما لا تدري، أدركت أنّ "العجوز” قد انتهت، وانتهى معها سِرُّها الذي احتضنته في سكناتها، ومات في باطنها ما خبأَت، ليذهب معها كالريح، وربما إلى باطن الأرض ويموت في غياهب ظلمات الأرض ويموت كلّ الوجود معها، وكأنّ ما حدث كان وهماً جاء مع الحياة وذهب معها.

























تنقّل "زيريني" مرّات عديدة في أنحاء المدينة، للبحث والتّحرّي عن فندق لا يثير الشّبهات، يستطيع الإقامة فيه مع "أدينان”، وذلك لتعذّر وجود شقّة أو منزل بسبب قوانين البلاد التي تمنع الأجانب من حق الاستئجار أو التملّك، وإذا حصل فإنّه من اليسير على قوّات الأمن مداهمة أيِّ منزل يمكن الاشتباه به بإقامة المغتربين فيه.
بعد إقامته أسبوعاً كاملاً في فندق كان حديث الإعداد والتّجهيز في منطقة شعبية، تتوسّط المدينة تُدعى "السويحلي" أشار لـ "أدينان"، الذي كان يقيم منفصلاً في فندق "الهاني" بالقدوم إليه، والإقامة معه لاختياره المكان الذي لا يمكن من خلاله أن تثار الشّبهات حولهم، وكان قد تمّ اختيار هذا الفندق بعد القيام بدراسة مطوّلة بينهما.
كان مبنى فندق "صلاح الدين" يتكوّن من أربعة طوابق، تطل بوّابتها على مفترق الشارع والسّاحة الرئيسية من منطقة "السويحلي" المشهورة ناحية الغرب، حيث المنطقة تعم بالازدحام، خاصّة الغرباء من كل صوب في المغرب العربي وإفريقيا، والمزدحمة بالمحال التجارية، إضافة إلى المطاعم والمقاهي الحديثة والفنادق، التي يرتادها النّاس من كل البلاد.
تميّزت منطقة "السويحلي" بمقاهيها ومطاعمها التي تديرها الفتيات الجميلات، خاصّة مقهى "المثلث" الذي ترتاده الفاتنات الرّباطيّات والبيضاويّات أو الشماليات الأنيقات.
والذي يتميّز أيضاً بخدماته التي تعرض على النمط الإيطالي، بحيث يحتل مكانه مبنىً مثلّثاً تتّجه بوّابته ناحية الشرق بحيث يتقابل مع مبنى "صلاح الدين" في الجهة المقابلة له.






أمّا المنطقة المحاذية لفندق "صلاح الدين" من جهة الشمال، والذي يتخلّله بعضاً من المحال التجارية، فيقع هناك فندق "بيروت" عبر الشارع الممتد إلى مطعم "الترسانة" التركي، الذي كان أدينان يدير العلاقات فيه مع بعضهم، بينما كان يفصل مباني هذه الفنادق عن الشارع الرئيسي المشهور، هو شارع "عمر المختار" الذي يمتد حتى "قرقارش" و "تاجوراء" حتى رأس جدير الحدودية، والذي كان يحوي "هذا الشارع" معظم أماكن السّهر اللّيلية مثل "أبو أحمد" الذي يقع مكانه قريباً من الساحة الخضراء، التي تقام فيها معظم الحفلات القومية، وكذلك كازينو النجمة الشهير برائداته من فتيات "العالم المغربي" والمائدة، والكازينو اللّبناني، وغير ذلك العديد منها، والتي كان أهمّها كازينو "الجندول".
إلى أن تمتد أماكن السهر إلى فندق "البحر" و "اللؤلؤه"، و العين الزرقاء الذي يقع على الساحل مباشرة، وأبو نواس في مصيف "قرقارش".
حيث كانت هذه المناطق، مراتعا يغطيها الغرباء بخطاهم وتسامرهم، كل يوم وكل ليلة، ليغرق "أدينان" حسب خطته مع "زيريني" في هذه المنطقة التي تمتلئ بالآلاف منهم دون أن يلفتوا انتباه أحد إليهم.
مضت الأسابيع التي قضاها "أدينان" في المدائن قاسية، شعر من خلالها أنه يخضع للظروف المحيطة به، وأنها قد تمكنت منه قليلا، وجعلته سجينا رغم ابتعاده عن بيئته الأولى و التي اعتاد عليها، وإحساسه كذلك بالأمان الغامض والذي لا يدري به أحد، أو يعرف حقيقته بعد موت فاطمة، لكن نزعته الشاذة التي يمتلكها فقد كانت تواجهه بواقع آخر مختلف، و أقوى امتثالا لشيء ما خفيا وكأن هناك ما يتابعه برويّة وسوف يباغته في لحظة مفاجئة.
غادر "أدينان" فندق " الهاني " الذي قضى فيه مدة من الوقت وجيزة، وترك كذلك جنسيته التركية للمجهول بعد أن انتهى دورها،وغير قليلا من شخصيته؛ ليتقمص أورافاً أخرى تثبت أنه مغربي الأصل.
كانت الساعة حينها تقترب من العاشرة صباحا، عندما حان موعد لقائه مع "زيريني"، في مقهى " المثلث" المتقابل مع مبنى صلاح الدين "الفندق" الذي ينتظر مسكنه فيه.
احتسيا القهوة معا في زاوية من المقهى تطل على الفندق من خلال زجاجها الخارجي، و الذي يبعد عنهم قرابة المئة متر فقط، تتخلل المسافة بينهما ساحة مثلثة مزروعة بأشجار السرو المهملة للغبار دون عناية .
جلست "حنان" بجوارهما، بعد أن انتهت من تقديم طلبات الزبائن لديها، قاصدة بذلك التعرف على أبناء بلدها الجدد، حيث سبق لها و أن تعرفت على "زيريني"، كونها تقيم معه في نفس الفندق، فعرّفها "زيريني" على الضيف الجديد "أدينان"، و أخبرها أنه شريكه في التجارة.
و بعد حديث قصير دار بينهم، اعتذر لها "زيريني" عندما هم مع "أدينان" إلى مغادرة المقهى. لم تقبل "حنان" الورقة النقدية التي تركها لها على الطاولة، معتبرة ذلك ضيافة لهما.

















شيئا ما كان ينازع " أدينان"، وهو يسير إلى جانب "زيريني"بهدوء يتمعن النظر بفندق " صلاح الدين " الذي أصبح مواجها لهما على بعد أمتار . بينما الشمس تسلط بضوئها الملتهب على عينيه من خلف مبنى الفندق .
تحسس شيئا ما مريبا مجهولا، لم يعتده منذ سنوات صباه… توقف فجأة وبهدوء، لم يغفل "زيريني" أمره، الذي هم بالتوقف هو الآخر.
- ماذا يا أدينان…
أوطأ "أدينان" برأسه و عينيه عن أفق الشمس، ثم خطى و تظلل بمبنى الفندق، ثم اتخذ من الأرض مرأى لعينيه.
- لا أدري، كأني رأيت هذا المكان أعيش فيه من قبل .
تجاهل الأمر، وسار بخطاه التي تبعتها خطى "زيريني" بخفه حتى وصلا معا بوابة الفندق الرئيسية المفتوحة على الشارع، انتاب "زيريني" شعوراً مبهماً، وتذكر ما قاله "أدينان". ثم تفكر في نفسه… يمكن أن تتشابه الأماكن في المدن، وكذلك الناس.
صعدا الدرج المؤدي إلى مبنى الطابق الثاني، حيث إدارة الفندق، كانت الإدارة قد أصبحت عن يمينهم، عندما تقابل "أدينان" فجأة مع مكتب الاستعلامات الواقع في الممر الرئيسي. حيث ارتأى إليه رجلا أصلعا … قصيراً، بالخمسينيّات من العمر، يجلس خلف مكتبه.
احتوى حدس "أدينان" المكان من خلال نظرة فاحصة، متخللاً بها الخطى البطيئة التي تحركه، ودون أن يثير انتباهاً لحركة وجهه، وقد حجبت حركة ذكائه العينين اللتين تريدان ابتلاعه، من خلف مكتب "أبو عطيه " المشغول في دفتره الكبير الذي أمامه.
جلس "أدينان" على كرسي مقابل لمكتب " أبو عطيه" بحيث أعطاه جانبه الأيسر، بعد أن أشير له بالجلوس وهو ما يزال مشغولا بكتابة بعض المعلومات التي أمامه.
فقال "زيريني":
- إنه شريكي بالعمل، المحجوز مكانه في الأعلى كما اتفقنا، بإمكانك "أبو عطيه" تفحص أوراقه.


ثم تركهم، بعد أن أعتذر، وصعد إلى الأعلى عندما شعر بإشارة من الهاتف الذي يحمله في جيبه الداخلي وقد كانت الساعة الثانية عشرة من كل يوم هي موعد اتصال يأتي من "زر وان" إليهم بطريقة منظمة.
نظر " أبوعطيه" إليه من خلال نظارته العتيقة و قال وهو يرتب بالأوراق الموضوعة على المكتب.
- تشرفنا، أهلا و سهلا، هل يمكنك إعطائي جواز سفرك.
هز أدينان برأسه.وهو يخرج بأوراقه من جيبه
- واخ، (حسناً أو نعم) وهي ( كلمة أمازيغية، استخدمها أدينان ليظهر أنه مغربي)، ثم مد بيده التي تحمل جواز سفره إليه على الطاولة ، تمعنه " أبو عطيه" قليلا .
وهو ينظر إلى الصفحة التي تحوي ختم الدخول بينما أدينان يستشعر تقليبه صفحات الجواز، مما حدا به أن يلتمس زوالا ما من خلف " أبو عطيه" متصنّما وهو يحدق به باندهاش ، ذهل أدينان فجأة، مما سلب فيه ذلك محيط ذاكرته وتركيزها، واحتوته غمامة ما شتّتت فيه أفكاره، وتناسى كل شيء محاولا الاعتناء بذاكرته التي ظللته، وبعثرت أفكاره، حيث سيطر الوجه الذي أمامه على جميع أحاسيسه وتملكها.
حاول أن يأتي "بزيريني" من خلال عينيه، إلا أنه لم يستطع، عندما شعر بحاجته إليه.
أما " أبو عطيه" فقد كان قد نهض من مكانه خلف المكتب، وهو يحمل بيده جواز سفره، واتجه به نحو الإدارة، ولم يتنبه للإرباك الذي أصاب"أدينان" ومن خلفه أيضا.
نهض "أدينان" عن كرسيه، وتسمّر على قدميه، وعينيه قد سيطر عليهما الشبح الذي تملّكه فجأة، كانت تتملّكها عينان فيهما جاذبية غريبة لديه حملها طوال عمره، عينان طوى عليهما عمر ماضٍ، لم يستطع إدراكهما، احتبست أنفاسه، وتوتّرت ثنايا عظامه التي أخذت ترتجف؛ ليعود ذلك الإحساس الغـريب ويسيطر عليه من الماضي المجهول الذي يحمل فيه آلاماً غامضة، ثم أخذت تتدفّق ضربات قاسية متسارعة داخل صدره، محاولاً بقسوته مرّةً أخرى اختراق الغمامة التي غمرته، وأطبقت عليه، حاول أن يشُدَّ جسده الذي وهن، ثم أشار لها بعينيه، دون دراية، ودون إرادة. تمتم بشفتيه، شيئاً ما خرج بطيئاً، وهو يختنق.
- أَنتِ ..؟
لم تسمعه صاحبة العيون الساحرة، لكنها أدركت منذ اللحظة الأولى من رؤيته أنّ هذا الخاشع أمامها، هو نفسه الذي انتظرته منذ سنين عمرها التي انطوت، كيف لا، والذي انتابها هو مجهولها، الذي لا يفسّر لها، وقد سيطر على رعشات جسدها، وروحها دون إرادتها، تذكّرت هذه الملامح التي تتجسّد أمامها، تذكّرت تلك الهلامة الغائبة عنها منذ زمن بعيد، تلك الأحوال التي أوجدتها لها "العجوز" التي ذهبت، وهي أمام عينيها، تذكّرت تلال أطلس عندما كانت تعوم في الغروب، وكيف كان لها أن تشرق، ذهب بها خيالها إلى تلك المعاناة، التي كانت تخلق لها كل يوم جديد.
حاول "أدينان" أن يقاوم نوازعه، أن يتذكّر جيداً، وذاكرته تكذّبه، تولّدت فيه رغبة العدوان، فجأة ولم يعد يدرك، أخفض برأسه، ويده التي استندت بجسمه على الطّاولة، ثم ظهر له قرينه.. من هذه؟ ما هذا الذي انتزع منك وجودك، أم تراها إحدى ضحاياك التي طوى عليها العمر.
شعر بالبناء من تحت أقدامه يهتز، وهي أوشكت أقدامها أن تطيح بها، جعل المكان من "أدينان" ذئباً يهمُّ بالهروب، ويعود إلى ما كان عليه قبل لحظات، شعر أنه يريد الجلوس وحده في ذلك المكان ولا يستطيع. حتى تذكّر ذلك الوجه الملائكي الحزين، الذي أرّقه الليالي وأصبح في حلم من ماضيه، ارتعد دون أن يشعرها، ثم حوته ابتسامة وظهرت في عينيه، ابتسامة عَنَت لها الكثير من الماضي، ثم أدركه ألم أمره المختلف بسعادة مبهمة، وملاكه تقف أمامه بكبرياء ساكن عهده فيها بمخيّلته، رأى في عينيها ذلك الصمت السماوي، عرف بصمتها الطويل أنها قد أدركته بعنفوان يسرى في عروقها، بذلك الارتباط الروحي الذي أوجده الله ووحّده فيهما، تنهّدت والحياة بدأت تأخذ مكانها في جسدها القابع في دوّامته لأوّل مرّة في حياتها، بينما الانسجام يمتد ويتوافق في أفكارهما، من كلّ ما سبق وأحاط بهما، من ماضيهما الذي كاد أن يندثر مع مرور الأيام.
حاولا أن يركّزا معاً في أمريهما، استسلما لكبريائهما، لذاتهما، رغم سكونهما الذي يكاد أن يكون أبديا…

حاول "أدينان" أن ينطق، بينما الصمت كان يكفيهما، و العرق قد أخذ مجراة على جبينيهما، لتحتويهما لحظات من السكون، والمكان الذي بدا أنه أفرغ من أجلهما، بينما الشدائد قد علّمته احتمال المفاجآت التي لم تكن تعني له شيئا، فطوال حياته كان متأكدا أنه سوف يجدها، وقد بدأت أفكاره تراوده في أمرها منذ الأيام القليلة الماضية التي كان تواجده فيها بالمدينة.
أدار ظهره فجأة، عندما سمع صوتا غليظا من خلفه يقول:-
-بإمكانك استلام مكانك مع صاحبك.
ثم وضع بجواز سفره على الطاولة أمامه، مشيرا بذلك إلى "أدينان" بتناوله بعد أن أضاف للفتاة، توصيله إلى مكانه، حيث اقتربت من الطاولة و تناولت جواز سفره بشغف ظاهر.
سار بخطوات من نار بعد أن شكر " أبو عطيه".
لم يلتفت للوراء، " و أبو عطية" ينعم النظر إليهما، بينما الفتاة كانت قد تقدمته بخطى رشيقة، وهي تنظر إلى صورة جوازه بين يديها، كادت أن تسقط عندما تعثّرت خطاها بمطلع الدرج المؤدي إلى الطابق الرابع، فأمسك بها "أدينان" من كتفيها بيديه الشديدتين وبدا لها أنه قد رفع بها عن الأرض لشدة قبضته على أكتافها.










كانت تصعد الدرج ببطء دون أن تلتفت بوجهها إليه وهو يسير وراءها أما خياله فيمتلك أحشائها التي تمزقت و الذي خطف منها أحاسيسها فجأة. وقد احتوى وجودها. وجعلها تتخبط في إرادتها على ما أصابها من سكون فجأة بعينيه اللتين اخترقتا إنحاء جسدها.
كانا يصعدان وهو يداريها بخطاها التي ترتجف، و قد أدرك أنها قد أدركت أقدارها معه، التي كانت تنازعها منذ ماضٍ بعيد عند مدخل الباب الرئيسي من الطابق الرابع، الذي يطل على الفضاء، عبر ساحته الواسعة تحت السماء، تجاوزها بهدوء، كانت أدنى منه طولاً، بينما قوامها ممتلئاً. توقّف فجأة، وأخذ ينظر إلى وجهها، الذي يحاول اختراق الصّمت بينهما، فلم تستطع رغم نوازعها التي قد التأمت بجراحه المبهمة.
رفع "أدينان" بيده فجأة، وأزاح بشالِها الذي تغطي به رأسها ووجهها فأصابها الخجل، بعد أن ابتسمت، واخترقت الصمت بجمالها الذي بهر "أدينان" وأدهشه، وقد طال الصمت به وهو يتأمّلها، حتّى تفوّه بصوته المخنوق، وقال:
- لا أعجب أنني وجدتك، لكن كيف بهذا الجمال أن لا تدرك حقيقته هنا.
تجرّعت كلماته بلهف ثم تنهّدت، وبصوت خافت يحنو إليه أجابته:
- لأنّني لست لأحد، ولا يمكن لهذا الجمال أن يدركه غيرك.
رفع يده التي تحمل شالها فجأة، بعد أن انتابه شيءٌ من العاطفة تجاهها ثم أخذ يضعه في موضعه على رأسها، بكِلتا يديه اللّتين أحاطتا بوجهها أيضاً، أخذ يتأمّل برفق عينيها ورسمات وجهها الذي بدا كالبدر الذي يحمل في طيّاته وجنتين ورديّتين، داكنتين، كقمرة الليل الذي ألِفه دائماً، ثم أضاف وهو يكاد أن يحتضنها:
- يخيّل إليّ أنّني عرفتك جيداً .
- كيف لا تعرفني، أنا "آمال" يا "أدينان"، لا يمكن لأرواحنا أن تظلّلنا رُغم أنّك لست "أدينان".
كانت الأرض قد ابتلعته من تحت أقدامه، ليشرد به ذهنه بعيداً وهو ما يزال متصنّماً أمامها، يسترق النظر إلى صاحبه الراكن على عتبة بابه. حاول أن يفسّر ما عنت له كلماتها، ثم تجاهلها.
أما "زيريني"، فقد انتابته الدهشة، وهو يتأمّلهم معاً، وقد عهد بـ"أدينان" استحالة ميله للفتيات، بهذه السرعة وهذه الطريقة الغريبة كان ينظر إليه "أدينان" كأنّه يرجو منه استعطافاً على هذا الحال الذي حلّ به، ثم حدّق بها، وهو يومي لـ"زيريني" بشيء ما غامضاً، ورغم مرور أسبوعٍ كاملٍ على وجود "زيريني" في هذا المكان، فهو لم يتنبّه لوجود الفتاة التي أمامه، حتى أنّه لم يكلّمها أو يلقي لها بالاً فظنّ في قرارته أن صاحبه يعرفها، في ما مضى من تقلّبات حياته.
مرّت اللحظات بـ"آمال"، وهي لا تحتكم إلى عقلها، لا تكاد تشعر أنّها على حقيقة من أمرها، كأنّ ما يمر بها طيفٌ من الأوهام تخادعها بها أياّمها، مع أنّها كانت سعيدة، حتى أنّها لم تعد تتقن أعمالها كالسابق لانشغال ذهنها بلقاء "أدينان"، مما جعل أبو عطية يقول لها:
- منذ وصول هذا الشخص _ يقصد "أدينان" _ تغيّرت طبيعتك وأهملت عملك.
أما "أدينان" الذي كان قد خرج من الفندق لاضطراب سلوكه بعد لقائها، فقد كان قد ترك وراءه ما لا يتوقع بدنياه من مفاجأة.
استمر بخطاه الحائرة مترنّحاً، وهو يتفكّر، حتى وصل شارع الرشيد في الجهة الجنوبية القريب من مبنى الفندق، لم يستطع الاستمرار والصمود على قدميه ماشياً، فأعاد أدراجه إلى منطقة السويحلي، حيث عاد لمقهى المثلث المقابل للفندق لكن من غير "زيريني" الذي بقي في غرفة الفندق.
رآها من خلال زجاج المقهى، وهو جالسٌ على طاولته، كانت تضع بأكتافها على حافة جدار الفندق الاستنادي من الأعلى، تتأمل بوجهها المجهول، أو أنّها قد افتقدته، بحيث كان أعلى الفندق يطل على أنحاء المدينة ويتوسّطها، ويمكن للناظر من أعلاه أن يرى معظم أماكن المنطقة الحيوية، ولم يكن "أدينان" يدري إذا كانت قد رأته لحظة دخوله المقهى أم لا، بينما لم تكن أنظارها وحركة رأسها تدل على ذلك.





أخذ يتفكّرها، وهو حالم يتابع حركة رأسها الخفيفة من خلال عينيه تأمّل تلك الفتاة، التي أرقته ظلمات الليل، ثم تذكر وجهها الذي تجسّد في ثناياه، ثم ذهب هاجسه به ليحدثه كالعادة..
كيف يمكنك يا "أدينان"، أن تبقى هكذا تعيش، وقد فاجأتك فتاتك في مكان من الدنيا هو جهنّم فيه اختلافات كثيرة من صراعات البشر، الذي لا يختلف كثيراً عن المجتمعات التي ألِفتها.
لقد علمت من أنت لأوّل وهلة رأتك فيها عينيها، وروحها المتجسّدة في حركتك وشخصيّتك، نطقت ما بداخلها، عليك يا "أدينان" أن تنتهي من هذا المأزق، لكن ماذا ستفعل، هل ستقتلها كالأخريات؟ هل ستفعل بها مثلما فعلت بـ"فاطمة" والآخرين، لا يمكنك أن تفعل هذا، إنّك إذا انتهيت منها سوف تنتهي هذه المرّة معها، إنّ قدركما يحيا معاً، لا يمكن أن يتناسق الخلق بالاستمرار دون الحياة، الويل لك يا "أدينان"، إنّك لا تدري كيف تستمر لأنّك تنتحر بين هذه الخليقة وقد قدّر الله أن يكون أحبّاؤك أقوى إيلاماً من أعداؤك.
حاول "أدينان" منازعة نفسه، تفكر أمره وأمرها، وشبحها يعيش في مخيّلته، أين أنتِ من الدنيا يا "أدينان"، ستفرغ لي أم للآخرين، إنّ رأسك مباحٌ في أرجاء الدنيا، كيف ستواجه هذا، هل تملك نفسك كالآخرين، لتعود لي. إنّك لم تعرف فتاة في دنياك إلاّ وتخلّصت منها، وأشباحهن تطاردك في كل مكان، أينما كنت، في نهارك وليلك، حتى وأنت في فراشك، لتصنع منهن عدوٍّ لك. لم يخلقن من أجلك، حتى طبيعتك، وعدوانك لا يتوائم وهذا الجنس.
وبينما كان فكره ما يزال مشغولاً شارداً، حادثته عاملة المقهى، استيقظ على حاله من غفوته التي أخذته بعيداً، فوجدها تحدّق به، أخبرته أنّها قد حاولت معرفة إذا كان يود الشّراب أم لا. اعتذر لها، وبعد أن أحضرت له قهوته، جلست معه على طاولته، وكانت قد لاحظت مسبقاً أنّه يحدّق بعينيه نحو الفتاة التي تعرفها.
- إنّها فتاة مسكينة، تعمل في إدارة الفندق، منذ يومين بأجرة قليلة، يبدو أنّها فقيرة وبحاجة للمصاريف، إلاّ أنّها ليست كالأخريات، فهي لا تزال عذراء.


بناء "صلاح الدين" كان قد تكوّن كفندق، مع بداية وجود "أدينان" في المدائن، حيث أعتبر هذا المكان "تشاركيه" كباقي التشاركيات الأخرى، الذي يمكن للدولة أن تمنحها التراخيص، وتخضع للتوزيع بين مجموعة من الناس، وتشرف الدولة بدورها على مثل هذه الأماكن، من خلال التمثيل الأمني، أو اللّجان الشعبية.
حيث تكوّن مبنى الفندق، من أربعة طوابق، الأرضي منه لم يستخدم لمدة عامين تقريباً، حيث أصبح فيما بعد "كوفي شوب حديث" تديره إحدى الفتيات الجزائريات وأخرى مغربية، كانتا تقيمان في نفس مبنى الفندق بالطابق الثاني منه، وقريباً من الإدارة الرئيسية، التي تحتوي على قاعة واسعة إلى اليمين من الطابق، وهو بمثابة المكتب الذي يستخدمه المدير العام الذي يدعى "خالد"، الذي توفيّ قبله المدير الأول أثناء وجود "أدينان" والذي كان يدعى "الدكتور" الذي كان قد أسّسه بنفسه مع شريكه الأول "العربي" والآخر "أبو خالد"، أما "أبو عطية" فقد كان موظفاً لديهم يدير مكتب الاستعلامات، بالإضافة إلى موظف الأمن، الذي يشرف على الفندق من ناحية أمنية، بينما أصبح فيما بعد يعمل لصالح "أدينان" دون درايته.
أما الممر الذي يمكن الدخول من خلاله، فبواجهته كان مكتب استعلامات الفندق تحت إشراف "أبو عطية" الأصلع، ومن خلفه ثلاث غرف، تحتوي كل غرفة فيها على برندة خاصّة تطل على الشارع، إضافة لمطبخ عام، يستخدمه قاطنو الفندق، لتميّز سكّانه وأغلبهم من الذين بحوزتهم الأطفال.
أما الفتيات اللاتي كنّ يقطن بالغرف، كانت إحداهن تدعى "نعيمة" وهي فتاة جميلة كانت تعمل في الضمان الاجتماعي وصاحبة كازينو في "سوق الثلاثاء" والتي أصبحت فيما بعد على علاقة خاصة بـ"أدينان"، وأخرى تدعى "سهام" تقطن إلى جانبها.
الطابق الثالث لمبنى الفندق، فقد كان يحوي، ثلاث عائلات بالإضافة للفتيات الأخر، ومنها عائلة "جيلاني " وزوجته "خولة"، والتي تعمل في صالون النساء التابع لفندق "أنيس" الذي يقع خلف فندق "صلاح الدين" في الجهة الغربية، وتحتفظ بعلاقات مهمّة لمعرفتها الجيدة بأحوال المدائن ولديها من الأطفال ثلاثة تتراوح أعمار الذكور منهم ما بين الثامنة والعاشرة، بينما الفتاة فعمرها ثلاثة عشر عاماً، أما "جيلاني" فكان لا يعمل.
ومن الذين يقطنون الطابق الثالث أيضاً، حنان عاملة مقهى المثلث، وفتاة أخرى تدعى "فطيمة" بالإضافة إلى بعض العجائز وفتياتهن، وقد كنّ كثيرات.
أما الطابق الرابع، فقد كان قد تمّ حجزه من قبل "زيريني"، وكان يحوي، غرفتين منفصلتين مع توابعهما وكذلك ساحة تبلغ تقريباً مائتي متر مربع، وهي مفتوحة على الفضاء، وقد كانت البعض من قاطنات الفندق يستخدمن هذه الساحة لنشر الغسيل فيها في أشعة الشمس، مما حدا بـ"زيريني" أن يطلب من إدارة الفندق منع هذه السلوكية، لتنشر كل فتاة أو عائلة ملابسها في البلكونة التي تتبع السكن الخاص من كلِّ غرفة.

















عمِلت تنقّلات "أدينان" وحركته إلى انتكاس شعبة المتابعة، عندما تعاقبت من فندق "النجمة" و "الهاني" ومن ثم "صلاح الدين" خاصة عندما ظهر بتغيير جنسيته من "التركية" إلى "المغربية"، مما أدى ذلك إلى زعزعة التنسيق بالمراقبة، بحيث أربك ذلك المخطّطات التي تدرس في شأنه.
فعندما أوشك أحد ضبّاط الاختصاص برسم آليّة لوضع أجهزة التصنّت داخل غرفته في فندق "النجمة"، انتقل إلى "الهاني" ومن بعد إلى "صلاح الدين" ولم تكن قد ظهرت لهم أيّة معلومات مهمة يمكنهم رصدها، حول ما يدور بينه وبين "زيريني".
وقد أودى هذا التغيير المستمر إلى تخوّف الاستخبارات على متابعة التنقّل المستمر، كأسلوب يمكنه استخدامه، لعدم استفادة أحد من ضبط المعلومات، ولوجود أكثر من مائة فندق في أنحاء المدينة المختلفة تمكّن "أدينان" من الإقامة بها، والأرجح أنّ ذلك كان لا يساعدهم في الارتكاز على معطيات محدّدة نحوه، وقد حدا بهم الأمر إلى الشَّك في تحليلاتهم الاستخبارية، فيما لو كان "أدينان" يعلم بمتابعتهم له أولاً، أو أنّ هذه التنقّلات كانت مدروسة، أم هي الصُّدفة التي جعلته يخضع لها.
شعبة المتابعة لم تكن قد انشغلت بـ"أدينان" فحسب، بل "زيريني" أيضاً، الذي كان قد انفصل عنه ولا يقل عنه خطراً، إضافة إلى سليم ومجموعته، التي كان أغلبها يعمل في التجارة المختلفة، داخل المدائن وخارجها، ومنهم من كـان يغادر البلاد ويعـود، ومن الذين لفت انتبـاه أجهزة المتابعة "المختار" وهو مغربي من الصحراء، الذي كان يتردد بأسفاره إلى إيطاليا، أما الآخر فقد كان "البكاري" وكلاهما كان على علاقة وطيدة بسليم، وقد تم لهم جميعهم الاجتماع بـ"أدينان". وتم كذلك رصدهم من قبل جهاز الاستخبارات.
وقد تمكنت شعبة المراقبة التي تهتم بأمور "سليم" من اختراق مجموعته التي تعمل في التسويق المختلف، وكان عملهم غطاءً ذكي لكل نشاطاتهم الأخرى كونهم "خلية" بدأت نشاطها برئاسة "سليم" وأن الذي يحركهم بشكل فعلي هو "أدينان"، وقد تم اختراقهم عن طريق إحدى الفتيات المغربيات، والتي تعمل لحساب شعبة الأمن الخارجي، حيث تعرّفت إلى أحد أفراد "خلية" سليم ويدعى "عمار" وتمكنت بفترة ليست بالطويلة من سحب بعض المعلومات منه.
على ضوء ما جرى، ولاعتبارات المتغيرات التي أحاطت بـ"أدينان"، حصل اجتماعاً، تم في غرفة عمليّات مبنى الاستخبارات القريب من "قرقارش" بحضور "جمعه" وآخر برتبة عقيد يدعى "بالغرياني" وضباط اثنين آخرين، أحدهم مسؤول إدارة الجنايات العامة.
تباحث جميعهم بخصوص "أدينان" وموضوع مسكنه الجديد، وكان قد مضى على وجوده في فندق "صلاح الدين" ما يقرب الأسبوعين، وقد تم اختيار "خولة" للعمل معهم عن طريق جمعه دون أن تعلم شيئاً بخصوص أهمية أدينان لهم، وكان اختيارها مؤقّتاً إلى حين ترتيب بعض الأمور، إضافة "للدكتور" مدير الفندق، الذي كان قد تعرّف على "أدينان" وأصبح يجلس معه كثيراً في قاعة الإدارة، وتناول الغداء معه.
كان "الدكتور من منطقة نائية عن "المدائن" تدعى "الزاوية" وهو طبيب بيطري بالأصل، وكان قد تساعد مع جمعة في تركيب وضع أجهزة التصنّت داخل الغرف التي يقطنها "أدينان" و "زيريني" بعد استدعائه السري إلى مبنى الاستخبارات ، وحصل أن استطاع الدكتور بالمساعدة في تسجيل إحدى جلساته في قاعة الإدارة على آلة التصوير.
لكن "جمعه" الذي كان يشعر بأنّ كلّ شيء قد تغيّر من حوله خاصّة داخل الجهاز، فقد أصبح يكنّ لـ"أدينان" في نفسه عداءًا مبهماً لم يظهره لـ"أبو ساق"، وهو يتحيّن الفرص باستمرار محاولاً اغتياله إذا تمكّن، حيث الدّافع الرئيسي لديه، أنّه قد تعرّض للانتقاص، بسبب فقدانه "فاطمة" والتي كانت مهمة للجهاز و"أبو ساق" شخصياً، ففي كل مرّة كان يجتمع فيها مع "أبو ساق" كان يواجه وجوماً بسبب إهماله المراقبة الدقيقة في اليوم الذي فقدت فيه "فاطمة"، هذا عدا عن ارتباطه مع جهاز الموساد في إيطاليا والذي أرهقه كونه أضحى عميلاً مزدوجاً، يتعرض للضغوطات من كلا الجهازين.
في الاجتماع أظهر "أبو ساق" تعاطفاً مع أدينان فيما اختص بمطاردة الاستخبارات الإسرائيلية له في كل مكان، وعندما طلب منه العقيد "الغرياني" توضيحاً قال:
- رغم ما يحمله "أدينان" من ماضٍ إجرامي، هو لا يختفي كونه يدرك أنّ لا بد من المواجهة معهم، بينما بنيّته شيئاً يمكن له أن يكون أفضل من المواجهة، وعلى ما يبدوا أنّ من عادته الهروب إذا أحسّ بالضعف، إنّما يكسب الوقت لتنظيم نفسه. إنه يشعر في هذه البلاد الآن بالأمان، معظم أفراد حركته قتلوا في أحداث استنبول، كان قوياً ثم ضعف. مشكلتنا الوحيدة معه هي علاقته بـ "مازن".
نحن ننتظر الحقائق، ويمكن للعقيد أن يكون قد تفهّم هذا الاتجاه جيداً، وجعل فيه الرغبة بالتريث في إلقاء القبض عليه، حيث مكتبنا في روما، استبعد هذا الأمر، حتى أن شخصية "أدينان" لا تتقبّل مثل هذه الأمور كونه بالأصل إنساناً عادياً، جعلت منه الظروف مجرماً لاحتكاكه برجال العصابات في بعض بلدان أوروبا، ومما يؤكد عدم ارتباطه مناهضته "للحركة الصهيونية" في العديد منها، حيث تحوّل عمله الإجرامي إلى عمل سياسي، وأنه تورّط لا إرادي.
علينا أيضاً أن لا ننسى أنه عربي، وقد تورّط بهذا بإرادة شخصية، وصنعته الأحداث، بينما لم يصنعه أحد، تعامل معهم ليقوى، وليس لهدف آخر، مما جعله يكوّن خلايا شخصيّة لمواجهة رجال العصابات ومن بعد جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، وقيامه بقتل واغتيال العديد من أفراد هذا الجهاز في عدّة بلدان، كل هذا التحليل يثبت أنه تورّط فيما هو فيه الآن.
بعد أن سمع جميعهم هذا التحليل عن أحوال أدينان، وقعوا بالحيرة مما جعل "الغرياني" يتساءل:
- إذا كانت نيّة العقيد بعدم اعتقاله، وأنه يستبعد قيام "أدينان" بأعمال تخريبية داخل بلادنا، لم لا نطلب منه الرحيل، أو طلب الاستفسار منه شخصياً حول ما يحيط به وسبب إقامته هنا، ولا نجعل الجهاز كاملاً يرتبك لوجوده.
ردّ عليه "أبو ساق" بعد أن تنهّد
- سوف نشرح للعقيد كافة هذه الأمور، وننتظر الرد منه، فنحن لا نستطيع التصرّف بشيء دون أوامره، رغم أنّه قد تورّط في جريمة قتل داخل بلادنا.


الفصل الاول -



#خالد_سليمان_القرعان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- علاقة النظام العربي بالصهيونية والادارة الاميريكية


المزيد.....




- نيكول كيدمان تصبح أول أسترالية تُمنح جائزة -إنجاز الحياة- من ...
- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...
- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...
- الفيلم اليمني -المرهقون- يفوز بالجائزة الخاصة لمهرجان مالمو ...
- الغاوون,قصيدة عامية مصرية بعنوان (بُكى البنفسج) الشاعرة روض ...
- الغاوون,قصيدة عارفة للشاعر:علاء شعبان الخطيب تغنيها الفنانة( ...
- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...
- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد سليمان القرعان - رواية خطى في الظلام - الجزء الاول